قدر الفلسطينيين شقاء، لا رخاء ولا سخاء. ها هم في خضمّ ملحمة جديدة نحو الخلاص لا تزال تكلّفهم الغالي والرخيص. يجدون أنفسهم في مهبّ رياح تغيير جديدة في المنطقة. رياح مصدرها محنتهم مع الاحتلال الإسرائيلي. لكنّ عواقبها ووجهتها لن تصبّ بالضرورة في مصلحة ميزانهم الذي عادت تتلاطمه أمواج إسرائيل “اللئيمة” وإيران “الماكرة”.
لا شكّ أنّ هجوم إيران الأخير على إسرائيل قلب قواعد المواجهة بين الطرفين. وهو تغيّر جذري سيطال وضع ومستقبل جميع حلفاء ووكلاء إيران في المنطقة. لكنّه بالتأكيد سيترك آثاراً أكبر على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي طالما شكّل بؤرة هذه المواجهة واستمرّ في إشعال جذوتها عبر أكثر من أربعة عقود.
لا يخرج التطوّر الجديد عن مسار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل يصبّ في قلبه. ولم يكن أساس العلاقات الإسرائيلية الإيرانية خلال أربعة عقود سوى انعكاس لطبيعة الاحتلال الإسرائيلي وارتداداته، ومنه صعدت إيران إلى دفّة التأثير في المنطقة، وبه ستبقى على حساب الآخرين.
آلة القتل لم تتوقف
يأتي هذا التطوّر في غمرة حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة منذ نحو سبعة أشهر، ولم تسلم منها الضفة الغربية حيث تُرك الفلسطينيون وحدهم دون نصير. وفي أسوأ حال منذ نكبة فلسطين عند قيام إسرائيل عام 1948. لم تتوقّف آلة القتل الإسرائيلية، لا في غزة ولا في الضفّة الغربية، ولم يعد أحد يتحدّث من قريب أو بعيد عن مطالب الفلسطينيين الوطنية المشروعة بإنهاء الاحتلال. وانحصر النقاش في كيفية إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية وكيفية إدخال مساعدات كافية لأهل غزة المضرّجين بالدماء.
لا تصدر إسرائيل أيّ إشارة إلى احتمال ولو صغيراً للتعامل مع الفلسطينيين كندّ له حقوق. بل تمعن في قتلهم وتخريب أرضهم.
لا شكّ أنّ هجوم إيران الأخير على إسرائيل قلب قواعد المواجهة بين الطرفين
يدعو كلّ ذلك إلى الاعتقاد بأنّ موقف إسرائيل إزاء الهجوم الإيراني غير المسبوق بعد الرد الإسرائيلي المحدود والمدروس على أصفهان. سواء كان مردّه المطلب الأميركي بعدم الردّ أو عجزها عن ذلك. إنّما وراءه ما هو غير معلن وما لم تفصح عنه إسرائيل والولايات المتحدة وإيران بكلّ تأكيد. ويأتي النفي السريع من قبل الأطراف لوجود اتفاق مسبق مرتّب للهجوم الإيراني ليلقي بشكوك إضافية وليشعل نار أسئلة محرجة عن طبيعة الهجوم وماهيّته، والأهمّ النتائج المترتّبة عليه.
سيمضي وقت حتى يمكن الفصل في حقيقة الأمر، لكنّ الوضع الجديد على الأرض في ظلّ العدوان الإسرائيلي المتواصل على الفلسطينيين. وبالتحديد عظم الكارثة في قطاع غزة، وتورّط إسرائيل في حرب تبدو بلا نهاية. مضافاً إليه الموقف الأميركي والغربي المتورّط في الحرب أيضاً والذي يبحث عن مخرج منها. كلّ ذلك يشكّل مداخل لفهم كيف ولماذا جرؤت إيران على تنفيذ هذا الهجوم المباشر على إسرائيل على مرأى ومسمع من العالم الأجمع.
صحيح أنّ الهجوم لم يتسبّب بأضرار مادّية أو بشرية لإسرائيل. لكنّه يتعلّق أساساً بالتأثيرات السياسية التي ستنعكس بشكل مباشر على مسار حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين التي باتت تقضّ مضاجع العالم بأسره بسبب تزايد الرأي العامّ الغربي المناهض لها والذي يظهر جليّاً في تأثيره على مسار الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة، وفي انعكاساته على الدول الأوروبية بعد التحرّكات الأخيرة لكلّ من إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا والضغط باتّجاه وقف الحرب والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
الضغوط على إسرائيل
تتعاظم في إسرائيل الضغوط على حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو “لإيجاد حلّ” لمسألة الرهائن المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية. وهو حلّ بعيد طبعاً عن حقوق الفلسطينيين ومطالبهم. لكنّه حلٌّ غير ذلك الذي تنتهجه حكومة نتنياهو، إضافة إلى الخسائر المتواصلة في صفوف الجيش الإسرائيلي وإنهاكه في قطاع غزة. لا يمكن إهمال الضغوط الاقتصادية المتصاعدة نتيجة الخسائر الكبيرة التي يتكبّدها الاقتصاد الإسرائيلي جرّاء استمرار الحرب.
تجمّعت ظروف موضوعية سياسية وجغرافية مع وضع فوق كارثي في قطاع غزة وبدرجة أقلّ في الضفة الغربية
لا يمكن أيضاً إغفال الوضع الإنساني في قطاع غزة، والفوضى في تقديم المساعدات الأساسية من غذاء ودواء التي خلقتها إسرائيل. إضافة إلى الدمار الشامل الذي لحق بالقطاع الذي يحتاج إلى سنوات من التخطيط والتحضير فقط للبدء بإعادته إلى وضع شبه طبيعي. كان كلّ ذلك بحاجة إلى حلّ “خلّاق” على الطراز الغربي، حلّ يتجاوز المطالب الفلسطينية الوطنية المشروعة. وهو حلّ سيتمحور فقط حول الوضع الإنساني فقط، ليكون في النهاية على حساب هذه المطالب.
ليس من حلّ أفضل من حلّ البوّابة الإيرانية. إيران التي تحرّك الحزب والحوثيين وميليشيات العراق، وإيران التي تستطيع الضغط على المقاومة الفلسطينية، على كلّ من حماس والجهاد (دون أن ننسى تأثير حركة الجهاد في الضفة الغربية). جميع هذه الأوراق التي تملكها إيران جديرة بالانتباه بالنسبة لأميركا والغرب وإسرائيل الذين لا يسعون على الإطلاق إلى منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، والذين لا يقوون على تحمّل تبعات استمرار حرب الإبادة هذه.
لقد تجمّعت ظروف موضوعية، سياسية وجغرافية، مع وضع فوق كارثي في قطاع غزة، وبدرجة أقلّ في الضفة الغربية. تمكّنت إسرائيل والإدارة الأميركية مجدّداً من ضرب وإرباك الفلسطينيين المشتّتين والمنقسمين في صميم أولويّاتهم. القطاع وصل إلى مرحلة ما بعد المعاناة، والضفة الغربية تعاني، ومنظّمة التحرير عاجزة، وحركة حماس بحاجة إلى طوق نجاة، فهي محاصرة بين ضغوط المؤثّرين في قراراتها، وعلى رأسهم إيران الآن. لقد تجمّع الفلسطينيون الأيتام مجدّداً حول طاولة اللئام، ومكر السياسة بقيادة إيران يترصّدهم.
إقرأ أيضاً: غزة: العودة من الركام إلى الركام