“غد بظهر الغيب واليوم لي وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام)
بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم أينما كان أن يكون موضوعياً في البحث، ولا يمكن الدخول أيضاً في موقف حيادي، إلا من خلال الحيرة حول أيّ من الأعداء المتقاتلين على أجسادنا يمكنني أن أؤيّده في نهش جزء منّي دون الآخر، فأجسادنا لن تعرف الفرق بين هويّات الناهشين، وبالتالي لا فرق عندها ولن تنحاز لتعطي القطعة الأكثر دسامة في الجسد الذي “تكسّرت عليه الرماح على الرماح”. هذا الأمر هو ذاته حتى بالنسبة للقادة الوطنيين العظام الذين نكّلوا بأجساد أبناء جلدتهم أضعافاً مضاعفة لما قام به العدوّ الرسمي.
التحليل الجادّ
.. لا أريد أن أدخل هنا في حلقات الاستهزاء السائدة من جهة، ولا في حلقة التكبير والتضخيم والإنجازات الوهمية “التي ستتظهّر لاحقاً” من جهة أخرى، بخصوص الهجوم الإيراني الذي حصل منذ أيام باتجاه الأراضي المحتلّة من قبل الغرب في فلسطين. الإشكال في الموقفين المتناقضين أنّهما يحجبان، كلّ من جهته، القدرة على تقويم الأمور بشكل جوهري وموضوعي للحدث وتداعياته.
لكن ما لنا والعواطف والحيرة، ولنعد للجدّ في التحليل. المؤكّد هو أنّ الهجوم الصاروخي على دولة الاحتلال ليس سابقة، فقد بادر صدّام حسين، في خضمّ حرب الخليج الأولى عندما احتلّ الكويت، إلى رمي حوالي سبعين صاروخ سكود، محمّلة ببعض الغازات. أدّت إلى مقتل وجرح العشرات ودمار كبير في الأبنية في مدن الاحتلال. يومها تحمّلت الصهيونية فكرة عدم الردّ كرمى لعين أميركا التي حشدت العرب حولها في حرب تحرير الكويت، ومن بينهم دولة الأسد الممانعة… الفكرة هنا هي أنّ الصهيونية التي احترفت منطق استخدام المظلومية اليهودية كسلاح فتّاك، استعملته يومها وقبضت ثمنه بالمزيد من الدعم الأميركي.
أبواب جهنّم سترتدّ بطبيعة الحال على كلّ لبنان والخيارات الصعبة في بلد على حافة الهاوية
ما أقوله ليس من قبيل الرأي المتحيّز ضدّ الصهيونية. بل على العكس، فقد أحسدها على الدهاء الذي جعل منها، من قلب الاستهداف الإجرامي والعنصري الأوروبي ضدّها، قوّة عظمى ليس باحتلالها أرض فلسطين فقط، بل على مستوى نفوذها في القرار العالمي. أصبحت فلسطين المحتلّة من قبل الصهيوينة أرضاً غربية خالصة، وبالتالي باتت جزءاً من منظومة الدفاع والهجوم الغربية.
إذاً، ومن البداية، فإنّ الصهيونية تحتلّ أرض فلسطين باسم الغرب بأجمعه، وبالأخصّ باسم الولايات المتحدة الأميركية، على الأقلّ منذ سنة 1967، وصار جيشها والأرض المحتلّة موقعاً عسكرياً وقاعدة هائلة. تشبه إلى حدّ ما قاعدة العيديد في قطر أو إنجرليك في تركيا أو أكروتيري في قبرص. الفرق هنا هو بالحجم وعدد الجنود ووجود السلاح النووي، الذي لم يأتِ بالصدفة ولا بخدعة ولا بغفلة من الزمن. بل عن سابق تصوّر وتصميم من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وهي التي حمت مشروع الصهيونية النووي من الاستهداف الدولي، في حين ترزح كلّ المشاريع الأخرى تحت سطوة المراقبة الدولية. لذلك من يواجه الصهيونية في فلسطين عليه ألّا يُفاجأ بأنّه حتماً يواجه الغرب كلّه. لكن من دون شرق يسانده، أي من دون أيّ قوة كبرى موازية أخرى، سواء كانت الصين أو روسيا.
الهجوم الأخير والمشروع النوويّ
فلنعد إذاً إلى الهجوم الإيراني الأخير وتداعياته السياسية والعسكرية. لا شكّ أنّ الصهيونية تسعى منذ فترة طويلة إلى دفع الغرب بأجمعه، أو الولايات المتحدة لوحدها، إلى مشاركتها في ضرب مشروع إيران النووي بشكل مباشر، وخارج إطار الحصار المفروض من منظّمة الطاقة النووية.
إذا توجّب على إيران الردّ من جديد، أظنّ أنّ القيام بالسيناريو السابق ذاته سيفي بالغرض
إيران ولاية الفقيه تعلم مسبقاً أنّها في مشروعها الإقليمي الذي يسعى إلى إنتاج قوّة عالمية كبرى. ستتواجه مع الاستكبار العالمي كلّه، ومع الشيطان الأكبر حتماً، لتضارب المصالح وليس لأسباب عقائدية ما. حتى عندما واجهت إيران قوّة إقليمية صغيرة مثل جيش صدّام حسين، عانت الأمرّين في حرب تقليدية أرهقتها وتسبّبت بإزهاق مئات آلاف الأرواح، ولم تتمكّن من كسر السدّ العراقي في وجه توسّعها. إلا بعد تدخّل الشيطان الأكبر باحتلال العراق وتشريع الباب أمام الغزو الذي أصبح اليوم من وقائع المنطقة. وبما أنّ خيار المواجهة التقليدية يتطلّب سباقاً شاقّاً ومضنياً وطويلاً بالتأكيد، وإن حصل فسيكون تحت رقابة الاستكبار والشيطان الأكبر. لجأت إيران إلى وكلاء يقاتلون عنها و”يستشهدون” في سبيلها فتحصد الانتصارات أحياناً كلاعب أساسي على الساحة. فيما أرضها سالمة، وتتهرّب من تحمّل تبعات النكسات لأنّها لا تخوض معركة بالمباشر، بل بالوكالة. يعني أن يتحمّل الوكلاء تبعات الردّ كما الخسارة. وهذا بالفعل ما يحصل، أكان في لبنان أم سورية أم العراق أم اليمن.
الفارق اليوم هو أنّ الصهيونية صارت، عن سابق تصوّر وتصميم. تتحرّش وتستفزّ إيران بالمباشر، من خلال استهداف درر وكلائها كالحزب مثلاً. والأهمّ من خلال اغتيال القادة الإيرانيين المنتشرين في كلّ مكان، لكن بالأخصّ في السفارة في دمشق. تحمّلت إيران الغموض المفضوح في مقتل عالم الذرّة في إيران. كما الاعتداء على مفاعل نطنز، مستفيدة من الغموض في تحمّل مسؤولية العملين. لكنّ عملية القنصلية تجاوزت الحدود في اختبار “الصبر الاستراتيجي” الإيراني، وصار النظام هنا مجبراً، على مضض، على الردّ بشكل مباشر، وذلك لحفظ ماء الوجه. كان الردّ أوّلاً موجّهاً للداخل الإيراني المتسائل بجزء منه عن حقيقة النظام ومدى قوّته وصدق وعوده. وهذا النظام يعلم أنّ هيبته في داخل إيران مرتبطة بمدى إظهاره للقوّة خارجها. والردّ أيضاً كان للوكلاء والحلفاء لتثبيت الثقة معهم.
أدّى هجوم إيران إلى إعادة وتثبيت شراكتها الوثيقة مع الاستكبار المستعدّ لغفران كلّ عصيان من نتنياهو وغيره
الخيارات الصّعبة للوليّ الفقيه
هذا كان وقت الخيارات الصّعبة لإيران الوليّ الفقيه، إذ يجب الردّ، لكن بشكل لا يؤدّي إلى استدراج أعدائها إلى حرب مفتوحة. من هنا اختيار الطرق الطويلة الكافية لتنبيه وتفعيل سلاح الردع الغربي، وما لم يكن خافياً على إيران هو أنّ هذه الدفاعات المتعدّدة الأشكال ستكون قادرة على حصر الضرر من مئات المقذوفات التي تمّ توجيهها نحو الأراضي المحتلّة، وأنّه سيتمّ إسقاطها. وبالتالي تفادي حدوث كوارث تعطي رخصة لإسرائيل لفتح أبواب جهنّم واستدراج حلفائها إلى ساحة المعركة. لكن بالنسبة لإيران فقد ردّت للمرّة الأولى من داخل أراضيها، وأعطت للمحازبين في إيران وخارجها فرصة بناء الأساطير عن نتائج الهجوم كما الاحتفال بالنصر. أمّا بالنسبة لإسرائيل. فقد أدّى هجوم إيران إلى إعادة وتثبيت شراكتها الوثيقة مع الاستكبار المستعدّ لغفران كلّ عصيان أو عناد أو دلع من نتنياهو وغيره، والتخفيف من الضغوطات التي فرضها الرأي العامّ الممتعض من حرب الإبادة على غزة.
لكن ماذا بعد؟ الواضح هو أنّ حلفاء الصهيونية يريدون منها الاكتفاء برقصة النصر الدفاعية الناجحة. مؤكّدين لقادتها أنّها ستكون أقلّ قوّة بدرجات من دون دعمهم ومظلّتهم. ربّما أيضاً، وكثمن لاكتفائها سيعطونها الرخصة لإتمام حرب الإبادة في غزة. ومع ذلك، فإنّ احتمال ضربة جديدة مؤذية ومحرجة ضدّ إيران لا يزال قائماً. صحيح أنّ الحرس الثوري سحب قادته الإيرانيين من مواقع خطر محتملة. حفاظاً عليهم من جهة، ولتفادي إحراجات جديدة من جهة أخرى. لكنّ الأمر يبقى في دائرة الخطر في حال حصل عمل إسرائيلي في مكان محرج من جديد.
إذا توجّب على إيران الردّ من جديد، أظنّ أنّ القيام بالسيناريو السابق ذاته سيفي بالغرض
ما حصل من هجوم على أصفهان قد يكون من قبيل المداعبة فقط، وقلّلت من شأنه إيران حتى لا تُستدرج إلى ردّ جديد وعدت به. إذا توجّب على إيران الردّ من جديد، أظنّ أنّ القيام بالسيناريو السابق ذاته سيفي بالغرض. ما يبقى هو الوسيلة المجرّبة والأنجح لدى إيران، وهي لعب كلّ أوراقها من الوكلاء. وبالتالي فتح أبواب جهنّم على إسرائيل في حرب شاملة، لكن بالوكالة.
إقرأ أيضاً: “حصانة” إيران أم “الحصن” الإسرائيليّ؟
بطبيعة الحال، فإنّ جوهرة التاج للحرس الثوري، وهي الحزب، ستلعب الدور الأهمّ. وأبواب جهنّم سترتدّ بطبيعة الحال على كلّ لبنان، ولا داعي هنا لشرح تفاصيل ما سيحصل والخيارات الصّعبة في بلد على حافة الهاوية.
لمتابعة الكاتب على X: