يفتح التعاطف مع غزة الشهيّة للاستثمار السياسي والأمنيّ في الساحة السنّيّة في أربعة اتّجاهات، لكلّ منها أغراضه:
1- الشيطنة:
هو الاتّجاه التقليدي الأكثر استسهالاً وتنميطاً، بالاستناد إلى افتراض أنّ الجسم السنّي “لبّيس” لاتّهامات التطرّف، وسيبقى كذلك ما دامت الحركات الجهادية مصدراً لقلق العواصم والسفارات. فيسهل إذّاك “دسّ” إخباريّات عن مخاطر تسرّب المتطرّفين إلى الحواضر السنّيّة في ظلّ أجواء الغضب من مشاهد المجازر والمعاناة في قطاع غزة. وتسهل المهمّة بتتابع الأخبار عن تنظيمات سنّيّة تدخل المواجهة في الجنوب ويتعرّض شبّانها لاستهداف إسرائيلي مباشر في القرى الحدودية أو في العمق اللبناني.
2- التهويل:
على ضفاف الشيطنة، هناك من يستثمر في التخويف من قابلية التطرّف للانتشار في الساحة السنّيّة، لإقناع العواصم البعيدة والقريبة بالحاجة إليه لضبطها وقيادتها إلى جادة الاعتدال. ويوضع في هذا السياق كثيرٌ ممّا يقوله من يدورون في فلك “تيّار المستقبل” منذ ما قبل زيارة زعيمه سعد الحريري الأخيرة للبنان. وأضافت حرب غزة طبقة إضافية من التخويف من إمكانية أن يتحوّل لبنان إلى “حماس لاند”. بشواهد انخراط عدد من الشبّان في تنظيمات تحمل السلاح في الجنوب. وهكذا يقوم التحالف الموضوعي بين الشيطنة والتهويل.
يفتح التعاطف مع غزة الشهيّة للاستثمار السياسي والأمنيّ في الساحة السنّيّة في أربعة اتّجاهات
3- الإلحاق:
وفّرت الحرب في غزة فرصة للحزب لتجاوز السدّ النفسي الكبير بينه وبين الجمهور السنّي. بعد عقدين من الاستقطاب السياسي الحادّ الذي أعقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وما تلاه من انقسام سياسي وحملات تخوين واجتياح لبيروت في أيّار 2008. والماكينة الإعلامية نشطة هذه الأيام في تقديم صورة “المعركة الواحدة” في وجه إسرائيل. بما يجعل بواعث القلق الداخلي من مشروع الحزب ضئيلة أمام الدم والتضحيات التي تقدّم في فلسطين ولبنان. وقد يرى الحزب في الفراغ السياسي فرصة لتوسيع بقع امتداده داخل الساحة السنّية. إمّا مباشرة، وإمّا عبر جمعيّات ووكلاء في المجتمعات المحلّية. وإمّا عبر التحالف مع تنظيمات تتلقّى الدعم من إيران، على نحوٍ شبيهٍ بالعلاقة مع التنظيمات الفلسطينية التي جعلت من غزة ورقة من أوراق النفوذ الإيراني. ويضاف إلى ذلك استخدام ورقة التنظيمات السنّية اللبنانية والفلسطينية التي تنشط في الجنوب تحت عين الحزب وفي حدود ما يتيح لها من هامش، لجعلها تحت سقف إدارته السياسية والأمنيّة.
4- التنظيم المسلّح:
هذا اتّجاه كان في بعض مظاهره مفاجئاً، لأنّه لم يقتصر على المخيّمات الفلسطينية أو الحركات الأصولية التي تلعب بها أجهزة المخابرات. بل امتدّ إلى فصيل سياسي ممثَّل في البرلمان هو “الجماعة الإسلامية”. ومهما تكن مسوّغات هذا الانخراط. فإنّه بلا شكّ قفزة من شاهق لا تفسير لها في المنطق السياسي والأمنيّ والعسكري، وستنتهي بانتهاء الحرب. لكنّ مفاعيلها السلبية لن تنقضي بالسرعة نفسها.
تاريخ الشيطنة
أثبتت تجربة العقدين الماضيين أنّ شيطنة السُّنّة حدودها مطّاطة. فهي يمكن أن تختفي من الخطاب السياسي حين يخطب الحزب ودّ السنّة، أو حين يزور جبران باسيل طرابلس. ويمكن أن تتّسع لتشمل أيّ سياسي سنّيّ خصم، ولو بلغ من الاعتدال مبلغ رئيس الوزراء الأسبق تمّام سلام (وصفه العونيون يوماً بالداعشيّ الذي يلبس كرافات!).
هناك من يستثمر في التخويف من قابلية التطرّف للانتشار في الساحة السنّيّة
لكنّ الشيطنة تصبح أكثر خطراً حين تتحوّل من الغلوّ السياسي إلى العبث الأمنيّ. كما حدث حين اخترع النظام السوري تنظيم “فتح الإسلام” في مخيّم نهر البارد، أو حين فُتحت طريق العراق أمام ثلّة من المتطرّفين. ليباعوا لاحقاً إلى أجهزة المخابرات الدولية، أو حين تحوّل أحمد الأسير إلى عبثٍ مسلّحٍ ببضع بنادق.
لم تكن أيٌّ من هذه الألاعيب الأمنيّة حالة جدّية في الساحة السنيّة، لأنّ جمهورها بطبيعته منافٍ للتطرّف. ولا أدلّ على ذلك من أنّ الطائفة لم تحمل السلاح في الحرب. ولم تكن أرضاً خصبة لأيّ من الحركات الجهادية. ما خلا بعض التنظيمات الصغيرة التي كانت تتلقّى التمويل والتسليح والتدريب من إيران في الثمانينيات. وحين انتهت الحرب اتّضح أنّها ليست ذات امتداد شعبي، وأنّها لا تستطيع إيصال مختار أو عضو في مجلس بلدي.
يعود ذلك إلى التأسيس السياسي للسنّة، بما هم في غالبهم مجتمع يقيم في الحواضر المدنية الساحلية. حمل الهويّة اللبنانية ودافع عن الانتماء إليها في إطار الدولة. لم يحمل السنّة السلاح حين أيّدوا الناصرية، ولا حين وفّروا حاضنة سياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا حين قُتل رفيق الحريري وخاضوا المواجهة السياسية الأقسى في تاريخهم مع الحزب، ولا حين أيّدوا الثورة السورية في 2011، ولن يخرجوا عن هذه القاعدة في تعاطفهم مع غزة.
إقرأ أيضاً: أين مزاج أهل السُنّة؟
لفظت البيئة السنّيّة التطرّف حين كانت أمواجه في أعتى مدّها. وما أنتجته من نخب يشبهها في هويّتها الوطنية والدينية. من مصطفى نجا إلى رياض الصلح وصائب سلام ورشيد كرامي وحسن خالد ورفيق الحريري. وكلّ ما عدا ذلك ليس إلّا تحالفاً موضوعياً بين شطينة السنّة والتهويل بميلهم إلى التطرّف.
لمتابعة الكاتب على X: