“في كلّ عرس إلو قرص”، كما يقول المثل اللبناني. والضمير الغائب هنا يعود إلى خطاب التخوين والكراهية والتحريض والعنف وانقسام الرأي العامّ اللبناني الذي بات يرافق كلّ حدث ثقافي أو سياسي أو جرميّ في لبنان منذ سنوات. لكن هذه المرّة سبق القرص العرس الذي كان يعدّ له المخرج والكاتب المسرحي والممثّل الفرنكوفوني اللبناني وجدي معوّض. ليعرضه بدءاً من 30 نيسان الجاري حتى 19 أيار المقبل، على مسرح “لو مونو” بعنوان “وليمة عرس عند رجال الكهف”. من بطولة فادي أبي سمرا وبرناديت حديب وآخرين. وأثار العرس المنتظر من قبل جمهور المسرح العالمي، جدلاً وانقساماً واسعاً حتى قبل الاطّلاع على فحواه… فتحوّل مجيء معوّض إلى لبنان وتهديده وعودته إلى باريس إلى مسرحية سياسية بامتياز. بطلتها إسرائيل في الظلّ… ونضال الأشقر في الواجهة… فما الذي جرى؟
فوجئ فريق العمل ومسرح “لومونو” والمخرج والكاتب المسرحي والممثّل الفرنكوفوني اللبناني وجدي معوّض، بحملة مُمنهجة من أكثر من جهة وشخص. والهدف هو إلغاء مسرحية “وليمة عرس عند رجال الكهف”. الحملة استهدفت معوّض نفسه والممثّلين والفنّانين و”لو مونو”… الذين أُهدرت دماؤهم ووُصفوا بأنّهم “عملاء” و “مطبّعين”، عبر صفحات السوشال ميديا. وهو ما اضطرّ مسرح “مونو” إلى الإعلان عن إلغاء العرض كليّاً الأربعاء الماضي، بعد إخبار قضائي في حقّه، على خلفية اتّهامه بالتّطبيع مع إسرائيل. وبعد “تهديدات جدّية” تلقّاها “بعض الفنّانين والفنّيين”، كما قالت مديرة المسرح جوزيان بولس لـ “أساس”. وطلب الإخبار القضائي توقيف مدير مسرح “لا كولّين” الفرنسي وجدي معوّض الذي يحمل الجنسية الكندية، بجرم “التواصل مع العدوّ الإسرائيلي”.
رفض وجدي معوّض التعليق على الموضوع وعاد إلى فرنسا بعد تهديدات جدّية. لكنّ مسرح “لا كولّين” أصدر بياناً أعلن فيه أنّه “أخذنا علماً بالإلغاء، وفريق عملنا سيعاود التمارين بعد عودته إلى فرنسا لعرض مسرحية “وليمة عرس عند رجال الكهف” في مهرجان “ربيع الممثّلين” (Printemps des comediens) في مدينة مونبلييه الفرنسية من 7 إلى 9 حزيران المقبل”.
رفض وجدي معوّض التعليق على الموضوع وعاد إلى فرنسا بعد تهديدات جدّية
زيّون في “ميس الريم”
يحيلنا هذا العرس إلى مسرحية “ميس الريم” للأخوين الرحباني ومن بطولة فيروز. وجدي يذكّرنا بزيّون (فيروز) التي حملت فستان العرس من قرية كحلون إلى قرية ميس الريم كما حمل معوّض نصّه الذي يكتبه للمرّة الأولى من باريس إلى بلده الأمّ، مستوحياً من ذكرياته وهو طفل تحت القصف في الحرب الأهلية. أراد وجدي فتح دفاتر الحرب الأهلية في مسرحيّته الجديدة، بعد نجاحات عالمية له في المهجر. فعاد إلى بيروت ليُقيم عرساً وطنياً على خشبة “لو مونو” حيث يجتمع كلّ اللبنانيين في قاعة واحدة بغضّ النظر عن توجّهاتهم وانتماءاتهم للحديث عن الحرب وآفاتها التي تلاحقنا إلى اليوم… والدليل قضية مقتل باسكال سليمان التي كادت تُشعل فتيل الحرب الأهلية من جديد.
وجدي مثل زيّون أراد أن يرفع صوته في بلده الذي تهجّر منه بسبب الحرب والكراهية والاقتتال على الهويّة. أراد أن يناقش هذا الخطاب المتنامي الذي يحضّ على العنف والقتل ونبذ الآخر. لكنّه وجد نفسه متّهماً من قبل أبناء بلده بأنّه “متآمر ومطبّع وإسرائيلي” كما قرأنا على صفحات السوشال ميديا. تماماً مثل زيّون التي أرادت إصلاح ذات البين بين عائلتَي ميس الريم، لكنّها اتُّهمت بأنّها سبب المشكلة. وهنا أصبح وجدي معوّض الذي يدين في كلّ تصريحاته خطاب العنف والحرب بكلّ أشكالها ويدين الجناح العسكري لحركة حماس بوضوح كما يدين المجازر الإسرائيلية على رأس السطح، هو “العدوّ”، وهو “المكروه”، وهو “المحرّض”.
الحرب تنتصر
زيّون في “ميس الريم” دافعت عن نفسها أمام المحكمة، وعن حرّيتها وعن نواياها الطيّبة في أغنية “يا مختار المخاتير”. لكنّ وجدي لم يُحاكَم ولم يُسمح له بإبداء رأيه أو عرض وجهة نظره من خلال مسرحيّته. وُوجه بالإلغاء والرفض وأُهدر دمه من قبل جمهور الممانعة على صفحات السوشال ميديا. وشنّت حملات ممنهجة ضدّه. واعتُبر منبوذاً حتى قبل مشاهدة المسرحية!
وجدي مثل زيّون أراد أن يرفع صوته في بلده الذي تهجّر منه بسبب الحرب والكراهية والاقتتال على الهويّة
زيّون تنتصر في عالم الرحابنة للحبّ وتتصالح العائلتان المتخاصمتان في النهاية. لكن في لبنان يبدو أنّه لا مكان للحبّ. فقد كُتبت علينا الحرب كما كُتب على فنّانينا ومثقّفينا ومن يخالف الرأي الحاكم الأوحد النفي وهدر الدم.
لماذا هذا الخوف من مسرحيّة؟ ولماذا الخوف من الرأي الآخر؟ ولماذا لا نعطيه فرصة للدفاع عن نفسه وسرد الأحداث التي تتعلّق بهذا الاتّهام البعيد عنه وجدي كلّ البعد. فهو أخرج مسرحية لمسرح “لاكولّين” الوطني تتطرّق إلى نبذ العنف والكراهية بين اليهود والعرب في فلسطين. ودفعت السفارة الإسرائيلية ثمن تذاكر سفر الممثّلين الإسرائيليين. وبالتالي فإنّ وجدي معوّض لم يقبض مالاً إسرائيلياً. وفي فرنسا هذا طبيعي. إذ كان العمل يتطلّب مشاركة يهود يتحدّثون بلغتهم الأصلية. وهذه ضرورات فنّية. فلماذا لا نتعامل مع الموضوع بهذه البساطة. فوجدي لا يمكنه مخالفة القانون الفرنسي ولا يمكنه معاداة السامية هناك وإلّا فسيُسجن. وهذه المسرحية بعنوان “كلّ العصافير” مُنعت أيضاً في ألمانيا. واتُّهم العمل بمعاداة السامية ولم يهُمّ وجدي وفريق العمل ذلك. فلماذا لا نحاكم العمل الفنّي بدل أن نحاكم الفنّان؟
جدل أم تحريض؟
لم يتوقّف الجدل حول هذا “العرس” المشؤوم منذ بداية الأسبوع. وانقسمت الآراء في لبنان بين مؤيّد لعرض المسرحية وبين رافض لها ومحرّض يتّهم كلّ من ساهم في العمل بأنّه “إسرائيليّ”.
يُتداول عبر تطبيق “واتس آب” في لبنان تسجيل صوتي للفنانة المسرحية ومديرة مسرح المدينة نضال الأشقر تتحدّث فيه مع بول الأشقر وتقول له: “لا أعرف إن كنت تعرف أنّ وجدي معوّض متعاون مع السفارة الإسرائيلية في باريس، وموّلت له مسرحيّة “كلّ العصافير” ويمكن المسرحية الحاليّة كمان. ولازم تعرف أنّ هذا الشخص متعامل مع الإسرائيليين في باريس في مسرح “لاكولّين” من زمان. هكذا اكتشفت. ادخل إلى “يوتيوب” واسمع تصريحاته عن الإسرائيليين والإسلام”.
لم يتوقّف الجدل حول هذا “العرس” المشؤوم منذ بداية الأسبوع. وانقسمت الآراء في لبنان بين مؤيّد لعرض المسرحية وبين رافض لها
وبول الأشقر هو صديق أنطوان بولاد المدير العامّ لـ”السبيل” (جمعية أصدقاء المكتبات العامّة)، وكان يساعد في حملة تمويلية للجمعية. لذلك أرسلت له نضال الأشقر هذا التسجيل الصوتي. ونفى المنسّق التنفيذي للجمعية علي صباغ أن يكون لـ”السبيل” أيّ علاقة بإنتاج المسرحية، بل قال إنّها كانت قد ضمنت العرض ما قبل الأوّل للمسرحية من أجل حملة تمويلية لتغطية نفقات المكتبات العامة. كما ضمنت مسرحيات أخرى لمخرجين لبنانيين معروفين مثل يحيى جابر مثلاً. واتّهم البعض الأشقر بأنّها تشنّ حملة على الزملاء في “الكار” في مسرح “لو مونو” بعد النجاحات التي برزت في الأشهر الماضية للأعمال التي استضافها واستقطاب أعداد كبيرة إليه، خصوصاً بعد عرض الأعمال الاستعادية لريمون جبارة.
نضال الأشقر
لكنّ نضال الأشقر أجابت على أسئلة “أساس” قائلة: “في المبدأ أنا ضدّ توقيف عرض أيّ مسرحية لأيّ سبب كان، وأنا لست ضدّ حرّية التعبير. لكنّني ضدّ التطبيع مع إسرائيل بكلّ أشكاله وضدّ التعامل مع إسرائيل، سواء من قريب أو من بعيد. في لبنان يجرّم القانون هذا التطبيع والتعاون مع العدوّ. ووجدي قام بإنتاج مسرحية في باريس على عينك يا تاجر، من إنتاج السفارة الإسرائيلية في باريس. وهذا موثّق على ملصق المسرحية. يُعتبر هذا الأمر خارجاً عن القانون اللبناني”. ورفضت الاتّهامات الموجّهة ضدّها بأنّها تشنّ حملة على “لو مونو”، معتبرةً أنّ ذلك افتراء. ولفتت إلى أنّها من أوائل الداعمين للحركة المسرحية في لبنان، لكنّها ضدّ التطبيع.
فوجئ فريق العمل ومسرح “لومونو” والمخرج والكاتب المسرحي وجدي معوّض، بحملة مُمنهجة من أكثر من جهة وشخص
أكّدت أنّ “الدنيا فالتة، لكن لا يمكننا السكوت وعلينا محاربة التطبيع وعدم السكوت عنه. وعلى هذا الأساس رفضتُ طلب المركز الثقافي الفرنسي في لبنان قبل سنة تقريباً عرض مسرحية “وليمة عرس عند رجال الكهف” على مسرح المدينة الذي يحبّه وجدي كثيراً نظراً لتقنيّاته وفضائه الواسع. ولم أعلّل السبب، وكنت على دراية بخلفيّة معوّض. لكنّني أدقّق دائماً بأيّ عمل يأتي إلينا ومن أيّ مكان في العالم أتت الشخصيات التي وراءه. خصوصاً في موضوع التطبيع مع إسرائيل. وهو أمر يؤرقني وليس فيه وجهة نظر. لكنّني فوجئت بأنّ وجدي آتٍ إلى بيروت عبر رسالة وصلتني على تطبيق “واتس آب” لعرض المسرحية نفسها. وعرفت بذلك “حملة مقاطعي إسرائيل في لبنان” (CBSI)، وأخذنا جميعاً المبادرة إلى توقيف هذا العمل”. وختمت: “على وجدي معوّض أن يتحمّل مسؤولية أفعاله وأقواله، وأنا آسفة جداً أن يحصل ذلك في بيروت. لكنّنا مضطرّون، وهذا السبب الوحيد الذي نقبل من أجله توقيف مسرحية”.
جوزيان بولس
أمّا مديرة مسرح “لو مونو” جوزيان بولس فقالت لـ”أساس” إنّها كتبت في الأوّل من حزيران 2023 عبر البريد الإلكتروني لمسرح “لاكولّين” الباريسي، طالبةً تقديم مسرحية “أمّ” في مسرح “لو مونو” في بيروت بعد النجاحات الباهرة العالمية التي حقّقتها. “لكن لأسباب تقنيّة محضة، لا يمكن أن تقدَّم على خشبتنا. لذلك اجتمعت مع إدارة المسرح عبر تطبيق “زووم”، واقترحت على “لو مونو” حصراً عرض “وليمة عرس عند رجال الكهف”، وهي المسرحية الأولى التي يكتبها معوّض المعروف عالمياً كمخرج وممثّل، وكان من المفترض أن يكون عرض بيروت هو الأوّل عالمياً. وقد دعونا إلى العرض الافتتاحي وزراء لبنانيين وسفراء لدى لبنان وصحافيين من مختلف بلدان العالم”. وأكّدت جوزيان: “هذه المسرحية خُلقت لمسرح “لو مونو” ولم تذهب إلى أيّ مسرح عربي آخر”.
يحيلنا هذا العرس إلى مسرحية “ميس الريم” للأخوين الرحباني ومن بطولة فيروز. وجدي يذكّرنا بزيّون (فيروز)
لكن هل تعتبر بولس أنّ هناك حملة ممنهجة ضدّ المسرح وضدّ وجدي معوّض أو ضدّ حرّية التعبير في لبنان التي تدنّى مستواها بناء على تقارير رسمية دولية وبناء على دراسات لمؤسسة سمير قصير. خصوصاً في ما يتعلّق بقطاعَي الثقافة والصحافة؟
تجيب بولس: “كلّ نجاح يحقّقه شخص أو مؤسّسة يواجه حملات مثل هذه. ولكن لا يمكنني الجزم أنّها ممنهجة لأنّني لم أقم بها شخصياً. ومن المعروف أنّ المشاعر تتفاقم وتتكثّف في حالات الحرب والصراعات وحملات الكراهية. ونفهم أن تتعاظم هذه المشاعر بالتزامن مع حرب غزّة تعاطفاً مع أهلها. ونحن نعرف أنّ هناك أشخاصاً وجهات تحارب الفكر…. وتريد الإمساك بزمام كلّ الأمور ليفكّر البلد كلّه من زاوية واحدة وبطريقة شمولية. لا يمكننا تغيير هذا الوضع إلا عبر المقاومة الثقافية التي أؤمن بها شخصياً”.
فادي أبي سمرا
“أساس” سأل الممثّل اللبناني فادي أبي سمرا الذي أعلن أسفه لما آلت إليه الأمور في البلاد، معتبراً أنّ “وجدي معوّض وفريق العمل تعرّضوا جميعاً لحملة ممنهجة تعتمد لغة الكراهية وتريد فرض ثقافة اللون الواحد”.