أهل الذمّة اصطلاح أطلقه الفقهاء على غير المسلمين المقيمين في المجتمع الإسلامي. ويضمّ إضافة إلى أهل الكتاب (النصارى واليهود) المجوس والصابئة وغيرهما. سُمّوا بهذا الاسم لأنّهم دفعوا الجزية فأمّنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وأصبحوا في ذمّة المسلمين. باتت تُسمّى “الذميّة السياسية”.
لا لـ.. الذميّة السياسيّة
أستعير هذا العنوان من أمين ناجي (اسم مستعار). لكن ليس بالمعنى الدينيّ كما تناوله في كتابه “لن نعيش ذمّيين” (1979). فالذميّة السياسية لم تعد موجودة في الدول الإسلاميّة وأنظمتها ومجتمعاتها. بيد أنّها تعود لتبرز في المنطقة بالمعنى السياسيّ حيث النفوذ الإيرانيّ. وفي لبنان تمارسها “الشيعيّة السياسيّة” على المسلمين (سنّة وشيعة) كما على الدروز والمسيحيين.
فالحزب، الذي نصّب ذاته مدافعاً عن اللبنانيين، ووضع حزبه وتنظيمه وقادته وأفراده فوق القانون، واحتفظ بسلاحه خلافاً للدستور تحت ادّعاء المقاومة، ولم يتوانَ عن استعماله في الداخل لإخضاع اللبنانيين وفرض إرادته عليهم. يُمارس على اللبنانيين “الذميّة السياسيّة”. فهو يسيطر على البلاد وقرارها السياسيّ وعلى مؤسّسات الدولة، حتى الأمنيّة منها والعسكريّة والقضائية، بقبضة يمسك بها البندقية، وبإصبع تارةً يرفعه للتهديد، وتارة يكبس به على الزناد في الداخل. ويشنّ الحروب في دول المنطقة من سوريا إلى العراق وصولاً إلى اليمن، غير عابئ بارتداداتها على لبنان واللبنانيين.
اللبنانيون، كلّ اللبنانيين، يرفضون هذا الواقع. ويرفضون “الذميّة السياسيّة”. فهم شاركوا منذ نيّف ومئة عام في تأسيس هذا الوطن ليكونوا شركاء فيه. واختاروا دستوره في 1926 ليكون “الكتاب” الذي يحكمون بموجبه البلاد وليكون الحَكَم بينهم عند الاختلاف أو الخلاف. وتوافقوا على تعديله في اتفاق الطائف الموقّع في 1990. وأبرموا الميثاق تحت عنوان “لا للشرق ولا للغرب”. وليس على أساس التبعيّة لإيران ضدّ الشرق والغرب معاً. فهم يرفضون أن يُحكموا بحسب نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران حيث المرشد الأعلى هو الحاكم الأعلى. وحيث الحرس الثوريّ الإيرانيّ، بكلّ فروعه الداخلية والخارجيّة، القوّة العسكريّة التي تحكم البلاد وتخوض الحروب في الخارج التي تحدّد السياسات الخارجيّة. واختار اللبنانيون نشيداً لهم “للعُلى للعلم”. ويرفضون شعارات “هيهات منّا الذلّة” و”مرحبا بالحرب”.
الذمّيّة السياسية لم تعد موجودة في الدول الإسلاميّة وأنظمتها ومجتمعاتها. بيد أنّها تعود لتبرز في المنطقة بالمعنى السياسيّ حيث النفوذ الإيرانيّ
سلاح الحزب والحرب الأهليّة
بعد اختطاف باسكال سليمان، منسّق القوات اللبنانيّة في قضاء جبيل، واكتشاف مقتله، اتّهم السيّد حسن نصرالله القوّات والكتائب بجرّ البلاد إلى حرب أهليّة. وهو اتّهام قديم جديد. أُطلق على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في 2007. ويُطلق على كلّ من يعارض سلاح الحزب ويقف بوجه هيمنته وتسلّطه على البلاد. وأضاف السيّد في كلامه .متوجّهاً “لمن يلاحقنا بقرار الحرب والسلم”: “من قام بالحرب حينها؟ هل أخذتم قراراً من الدولة أو أنتم اتّخذتموه؟”.
للتذكير، الحرب المُسمّاة “الحرب الأهليّة” والتي اندلعت في 1975، لم يتّخذ قرارها حزب الكتائب اللبنانيّة. أتى تسلُّح الكتائب منذ نهاية ستّينيات القرن الماضي ردّاً على تفلّت السلاح الفلسطينيّ في لبنان بعد اتّفاق القاهرة ومحاولة ياسر عرفات السيطرة على البلاد وقرارها. وأتى نتيجة تقاعس الدولة ومنع مؤسّساتها الأمنيّة والعسكريّة من القيام بواجبها في حماية نفسها واللبنانيين.
وللتذكير أيضاً، في الماضي رفض بيار الجميّل (المؤسّس) وكميل شمعون (مؤسّس حزب الوطنيين الأحرار) تحويل الجنوب إلى “فتح لاند”. ورفضا أن يكون لبنان منطلقاً لحرب مع إسرائيل، في حين أنّه وقّع معها اتّفاقية هدنة في 1949.
اليوم، ومنذ عقود، يتكرّر السيناريو لكن بسلاح إيرانيّ يحمله لبنانيون، ومن خلال تنظيم إيرانيّ قادته وأفراده لبنانيون. وهذا ما يرفضه، ليس فقط حزبا القوات والكتائب، إنّما غالبية اللبنانيين.
منذ إطلاق “حرب المشاغلة” دعماً لغزّة في جنوب لبنان، رفضَ اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين ودروزاً، زجّ لبنان في حرب إيران نفسها نأت عنها، ولا تزال. على الرغم من اغتيال إسرائيل لضبّاط إيرانيين كبار كان آخرهم مسؤول الحرس الثوريّ في لبنان وسوريا محمد رضا زاهديّ وقبله راضي الموسويّ المسؤول اللوجستي للحرس في سوريا.
منذ أيام طالب وليد جنبلاط بالعودة إلى اتفاقية الهدنة. وقبله ميشال عون، الحليف الأوّل للحزب، قال: “لسنا مرتبطين بمعاهدة دفاع مع غزّة”. القيادات السنّيّة بغالبيّتها العظمى رفضت إدخال لبنان في هذه الحرب. هذا مع العلم أنّ اللبنانيين، بكلّ طوائفهم الدينيّة وأطيافهم الحزبيّة، مع الفلسطينيين في غزّة والضفّة. يدعمونهم بالموقف السياسيّ وبالتعاطف الإنسانيّ.
اللبنانيون، يرفضون هذا الواقع. ويرفضون “الذميّة السياسيّة”. فهم شاركوا منذ نيّف ومئة عام في تأسيس هذا الوطن ليكونوا شركاء فيه
بالتالي اتّهام السيّد نصرالله للقوات والكتائب بجرّ البلاد إلى حرب أهلية مرفوض ومردود.
مقاومون منذ مئات السنين
بعد “غزوة عين الرمّانة” (2021) خرج السيّد نصر الله وهدّد المسيحيين بـ”مئة ألف مقاتل” لديه. وأضاف: “سجّلوا عندكم: مئة ألف مقاتل”. كان كلامه تهديداً واضحاً بحرب أهليّة.
وهل يعتقد نصرالله أنّ المسيحيين إذا ما هوجموا بـ”مئة ألف مقاتل” سيختبئون ويهربون ويستسلمون؟ ألا يعرف أنّ المسيحيين يقاومون منذ مئات السنين من أجل وجودهم؟ ألم يقرأ تاريخهم وتاريخ بطاركتهم في زمن العثمانيّ وقبله المملوكيّ؟ ألم يقرأ أنّ رهبانهم، قبل اندلاع الحرب في 1975 وبعدها، شاركوا في قيادة المقاومة ضدّ السلاح الفلسطينيّ عندما شكّل تهديداً للدولة ووجودها… وشاركوا في تأسيس جبهتها السياسيّة (الجبهة اللبنانيّة) . وفتحوا أديرتهم للشباب الذين اندفعوا لمقاومة مشروع إضعاف الدولة وتفكيكها؟
إذا لم يتسنَّ للسيّد قراءة تاريخ الموارنة الذين عاشوا قروناً في الجبال إلى جانب الشيعة، أفلم يسمع البطريرك الراحل نصرالله صفير يقول: “إذا ما خُيّرنا بين العيش المشترك والحريّة… نختار الحرّيّة”؟
إقرأ أيضاً: اليسار اللبنانيّ المعطوب… كارل ماركس راجع
بعد نهاية الحرب، التزم المسيحيون بقرار حلّ الميليشيات. تخلّوا عن سلاحهم وخلعوا اللباس العسكريّ. اختاروا العمل الحزبيّ. قاوموا سياسياً الوصاية السوريّة. وبعد خروج جنودها أكملوا نضالهم لاستعادة الدولة. وهم مصرّون على الاستمرار، مع شركائهم في الوطن، في هذا النضال السياسيّ. لن يتخلّوا عن قرارهم. ولكنّهم يقولون لكم مع كلّ اللبنانيين: نرفض “الذميّة السياسية”. و”لن نعيش ذمّيين” سياسياً في دولة الحزب.