نيران الجحيم الإسرائيلي متواصلة منذ ستّة شهور، و غزّة لم ترفع الأعلام البيض، ولا تزال تقاوم على الرغم من الجرح النازف والألم والفاجعة التي لا طاقة لبشر على تحمّلها. منذ الأيام الأولى للعدوان، وحكومة بنيامين نتنياهو والإدارة الأميركية تتحدّثان عن اليوم التالي للحرب. لكن لا هذه ولا تلك كشفتا عن خطّة واضحة لرؤيتهما لمستقبل القطاع والقضية الفلسطينية. ومع كلّ يوم صمود فلسطيني تتغيّر الخطوط العامّة والآراء والتوجّهات.
إسرائيل تقول أشياء ونقيضها. وواشنطن تقول أشياء أخرى ونقيضها في آن. نتنياهو يريد إعادة احتلال قطاع غزّة وتهجير الناجين من أهله. ولا يريد وقف النار قبل القضاء الكامل على حركة “حماس” وبنيتها العسكرية والسياسية والإدارية.
لكنّه لم يحدّد ما هي الخطة بعد إنجاز المهمّة إذا حصلت. فهو يرفض أن تعود السلطة الفلسطينية في رام الله إلى غزّة لقطع الطريق على أيّ محاولات مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967. تارة يتحدّث عن مناطق عازلة في القطاع. وتارة أخرى يتحدّث عن وجود أمنيّ إسرائيلي دائم فيه. وأحياناً يتحدّث عن تنصيب إدارة مدنية فلسطينية تتشكّل من عشائر وعائلات “معروفة” من جهاز “الموساد”. على أن تتولى توزيع المساعدات الغذائية والإنسانية من أجل تثبيت نفوذها على حساب الأحزاب والقوى السياسية الفلسطينية وزرع الخلاف بينها.
تؤيّد واشنطن أهداف نتنياهو في تدمير “حماس” وإخراجها من المشهد السياسي وكسر روح المقاومة. لكنّها ترفض إعادة الاحتلال، وتتراجع عن دعوتها إلى إقامة منطقة عازلة، ثمّ تطالب بعودة السلطة إلى قطاع غزّة بعد “تجديدها” و”تنشيطها”. حتى تكون قادرة على القيام بما هو مطلوب منها. وتوحي بأنّها لا تزال مهتمّة بإقامة دولة فلسطينية. وتتحدّث عن مرحلة انتقالية توكل فيها أمور القطاع إلى قوّة متعدّدة الجنسيات تشارك فيها دول عربية توافق عليها إسرائيل.
الفلسطينيّون و”يومهم التالي”
في المقابل كيف يتعامل الجانب الفلسطيني مع مسألة “اليوم التالي”؟ وهل ثمّة جهد مشترك أو أحادي الجانب لإجهاض المخطّط الأميركي الإسرائيلي والتخفيف من الأضرار على القضية الفلسطينية؟
نيران الجحيم الإسرائيلي متواصلة منذ ستّة شهور، وغزّة لم ترفع الأعلام البيض، ولا تزال تقاوم على الرغم من الجرح النازف
تسعى السلطة الفلسطينية جاهدة إلى عدم تفويت الفرصة لإعادة القطاع إلى كنفها بعدما أخرجته “حماس” من سلطتها عام 2007. وربّما تشكيل حكومة فلسطينية من التكنوقراط برئاسة محمد مصطفى يأتي في سياق الاستعداد لهذه المرحلة. عبر إظهار نفسها بمظهر “الفلسطيني المعتدل والمتجاوب مع التوجّهات الأميركية”. لا سيما أنّ تكليف مصطفى ترافق مع حملة “رئاسيّة فلسطينية” قاسية ضدّ “حماس” وعملية “طوفان الأقصى”.
من جهتها، تسعى “حماس” وحلفاؤها إلى الإسراع في التوصّل إلى صفقة تبادل للأسرى مع إسرائيل. على أن تضمنها قوى وأطراف دولية فاعلة، وتفضي إلى وقف دائم للنار، وأن تترافق مع:
– انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية.
– عودة النازحين من شمال القطاع ووسطه.
– السماح بإدخال المعونات الإنسانية.
– والبدء بإعادة الإعمار.
– على أن يترك أمر إدارة القطاع بعد وقف النار، إلى الفلسطينيين أنفسهم. بعد مشاورات داخلية تشمل كلّ الفصائل والشرائح والفئات الممثّلة لعموم الفلسطينيين.
بانتظار نهاية الحرب
لكن كلّ هذه التصوّرات تبقى معلّقة في انتظار انتهاء الحرب ومعرفة نتائجها. فالحرب لا تزال مستعرة ومرشّحة للاستمرار، إذا لم تبرز تطوّرات جديدة حاسمة. وعليه فإنّ معالم “اليوم التالي” ستُحدّد بناء على نتيجة الحرب:
– فإذا تمكّنت المقاومة الغزّية من انتزاع صفقة مقبولة تؤدّي إلى وقف دائم للنار وعودة النازحين إلى بيوتهم وانسحاب المحتلّ، فإنّ بإمكانها أن تصل إلى ما تصبو إليه. على الرغم من النكبة الفادحة التي حلّت بالغزّيين.
– أمّا إذا تمكّن نتنياهو من تحقيق مأربه بضرب البنية العسكرية لـ”حماس”، فإنّ “اليوم التالي” سيكون مصبوغاً بلون الدم واللون الإسرائيلي. وسيشهد تراجعاً للعمل الوطني الفلسطيني في انتظار ظهور مقاومة جديدة أكثر جذرية قادمة مهما تأخّرت.
تسعى السلطة الفلسطينية جاهدة إلى عدم تفويت الفرصة لإعادة القطاع إلى كنفها بعدما أخرجته “حماس” من سلطتها عام 2007
“فلسطين” ليست مستعدّة
لكن في أيّ حال فإنّ الاستعدادات لـ”اليوم التالي” فلسطينياً غير مطمئنة. والإشارات إلى ذلك كثيرة. أبرزها الاستعجال في تأليف حكومة فلسطينية جديدة ترضي الخارج لكنّها لا تحظى بقبول كلّ الفصائل والشرائح الفلسطينية. إضافة إلى حدّة التراشق الكلامي بين الفصائل الفلسطينية في أشدّ الأوقات حراجة وفي لحظات صعبة تحتاج إلى الوحدة والتضامن ونبذ الخلافات. ذلك أنّ إسرائيل تنظر إلى الفلسطينيين بالجملة كأعداء ولا تفرّق بين فلسطيني من “فتح” أو فلسطيني من “حماس”. ولا بين أبناء الضفة الغربية والقدس والجليل والناصرة وحيفا وغزّة. وفي الوقت نفسه فإنّ مقاومة المحتلّ ليست حكراً على “حماس” ولا على “الجهاد”، ولا من صنعهما. وهي حاضرة قبل تأسيسهما بعقود، ومتجذّرة في أرض فلسطين منذ ثورة 1935 التي انتفضت ضدّ الانتداب البريطاني وسياسة الهجرة لليهود. هذا قبل إعلان التقسيم عام 1948. وها هو “الفتحاوي” ابن الضفة مجاهد منصور، وأمثاله المئات، لم يتركوا غزّة وحدها. ويبلغون الجيش الإسرائيلي بالدم أنّ الشعب الفلسطيني واحد في مقاومة الاحتلال.
وهكذا، فإنّ أيّ عودة للسلطة إلى قطاع غزّة قبل تجديد شبابها وتجديد شباب منظمة التحرير وتوسيعها بضمّ “حماس” و”الجهاد” إليها، ستكون هامشية. وستبقي الربط ضعيفاً بين الضفة والقطاع. ولن تغطّي على استمرار الانقسام الحالي وتعميقه. والأخطر إذا ما كانت هذه العودة ستحصل في ظلّ بقاء الاحتلال الإسرائيلي لغزّة. لأنّها ستكون بمنزلة “إدارة مدنية” تثبّت الاحتلال وترفع عن كاهله أعباء مواجهة الناس.
أيّ عودة للسلطة إلى قطاع غزّة قبل تجديد شبابها وتجديد شباب منظمة التحرير وتوسيعها بضمّ “حماس” و”الجهاد” إليها، ستكون هامشية
نصيحة إلى السّلطة الفلسطينيّة
من هنا فإنّ الأجدى بالسلطة أن تعتمد مقاربة جديدة، يستند أساسها:
– أولاً، إلى أنّ الحرب على غزّة لا تستهدف “حماس” وحدها، بل تستهدف تصفية القضية الفلسطينية برمّتها، كما تستهدف الشعب الفلسطيني بمختلف أماكن وجوده وتوجّهاته.
– وثانياً، أنّ الوحدة على الرغم من كلّ الخلافات ضرورة وليست مجرّد خيار. وأيّ عودة إلى سياسة الاستئثار أو الإقصاء من “فتح” أو من “حماس”، ستقود مرّة أخرى إلى طريق الفتنة والفوضى والاقتتال ولو بعد حين.
كما أنّ نشر قوّة دولية، سواء أكانت عربية أو من دول أخرى، في ظلّ بقاء قوات الاحتلال ليس فقط في قطاع غزّة بل في الضفة أيضاً، من شأنه أن يفتح باب عودة الوصاية والبدائل العربية والإقليمية والدولية، وحتى الإسرائيلية. وأيّ تصوّر لتلك المرحلة لا يتضمّن خطوات محدّدة وجديّة لإقامة الدولة الفلسطينية، سيكون محكوماً عليه بالفشل. وسيؤدّي إلى تحويل أيّ وقف للنار إلى مجرّد هدنة تفصل بين انفجارين.
إقرأ أيضاً: حسابات الثّأر الإيرانيّ تريح الحزب… وتربك خطابه
قضية التكاتف والوحدة بين الفلسطينيين تحتاج إلى صبر وقرار وشجاعة. ومن أظهر هذا الصمود النادر في غزّة والضفة قادر على فعل المستحيل حتى لا تذهب دماء أطفال القطاع هدراً.