تعدّ روسيا واحدة من الدول القليلة ضمن ما يعرف بـ”العالم الأوّل” أو “المتحضّر” التي قلّما جرى فيها تسجيل حوادث ضدّ المسلمين، سواء من أهل البلاد الأصليّين أم من المهاجرين، تحت وطأة تأثير خطاب الكراهية المنبعث من ظاهرة “رهاب الإسلام” أو “الإسلاموفوبيا“.
داعش مخلب غربيّ
مع أنّ الاتّحاد الروسي ورث من الاتحاد السوفيتي جرحاً تاريخياً حفر عميقاً في الوجدان الروسي. وهو جرح “الجهاد الإسلامي” ضدّ الجيش السوفيتي في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. إلا أنّ هذا الجرح لم يكن يوماً سبباً في اضطهاد المسلمين الروس. لا بل على العكس، أثبت الهجوم الإرهابي الدموي الذي تبنّاه تنظيم “داعش – خراسان” على الحفل الموسيقي في “كروكوس”، إحدى ضواحي موسكو، أنّ روسيا، بقيادتها ونخبها ومحلّليها. تعي تماماً أنّ ذلك الجرح إنّما حُفر بأيد إسلامية فقط، فيما هو من تصميم وصناعة أميركا والغرب. ولذلك فإنّ
تصريحات المسؤولين وتحليلات المحلّلين والباحثين الروس تعكس عدم قناعتهم بمسؤولية تنظيم “داعش – خراسان” عن هذا العمل الإرهابي. وبأنّه في الحدّ الأقصى لا يعدو كونه “مخلباً غربيّاً” جرى استخدامه كـ”مطيّة” يُراد من خلالها إيقاع الفتنة بين روسيا والعالم الإسلامي، من أجل حرف الأنظار عن غرق الغرب في المستنقع الأوكراني.
من الملاحظات التي توقّف عندها المحلّلون الروس ما يلي: لماذا يقوم داعش بتنفيذ هذا الهجوم الدموي على الأراضي الروسية. في الوقت الذي تتعرّض فيه غزة وأهلها لحرب إبادة إسرائيلية مدعومة من الغرب؟ ألم يكن أولى بالتنظيم، وفقاً لمفاهيمه الإسلامية الراديكالية، تنفيذ عمليات ضدّ المصالح الإسرائيلية من أجل الضغط لفكّ الحصار المضروب على أهل غزة؟
علاوة على ما لاحظه المحلّلون الروس من أنّ الهجوم كان هدفه الوحيد قتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء. فإنّ لموسكو قناعة عميقة منذ ظهور داعش على مسرح الأحداث قبل سنوات بأنّ هذا التنظيم ما هو إلّا “بيدق” يتمّ تحريكه وتوظيفه من قبل دول أخرى. ولا سيما أنّه مخترق أمنيّاً من أجهزة استخبارات كثيرة وعديدة.
لم يكن خليلوف الشخص الوحيد الذي اندفع للمساعدة لكنّ السلطات الروسية سعت إلى إبراز تضحياته من أجل تبديد مشاعر القلق
أكبر تجمّع إسلاميّ في القارّة العجوز
يعتبر الإسلام ثاني أكبر الديانات في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية. لكن لا توجد إحصاءات حكومية روسيّة تبيّن التوزيع العرقي والديني للسكّان، ذلك أنّ كلّ واحد منهم يعدّ جزءاً لا يتجزّأ من الأمّة الروسيّة. لذلك الإحصاءات حول عدد المسلمين في روسيا غير رسمية، وتراوح تقديرات أعدادهم بين 20 و25 مليون نسمة.
يشكّل المسلمون ما نسبته 13% إلى 17% من الشعب الروسي، المقدّر عدده بما يزيد على 146 مليون نسمة. وفق أحدث البيانات الصادرة عن “المصلحة الفدرالية الروسيّة للإحصاء الحكومي” مطلع العام الحالي. ويعدّ المجتمع الإسلامي في روسيا أكبر تجمّع للمسلمين في أوروبا كلّها. ويشكّل المسلمون غالبية السكان في 7 أقاليم روسيّة: إنغوشيا، الشيشان، داغستان، قبردينو – بلقاريا، قراشاي – سركيسيا، بشكيريا، تتارستان، فضلاً عن” جمهورية القرم” التي يشكّل المسلمون فيها حوالي 15% من مجموع سكّانها.
حسب تصريحات سابقة لمفتي روسيا، راوي عين الدين، فإنّ عدد المسلمين في العاصمة موسكو وحدها يبلغ نحو 2.5 مليون نسمة. يشكّلون ربع سكّانها البالغ نحو 10.5 ملايين نسمة. وأكّد عين الدين في تصريحاته أنّ “المسلمين يعيشون بتناغم كبير مع سائر أطياف المجتمع الروسي”، وأنّ “عددهم في تزايد مستمرّ، نظراً لارتفاع نسب المواليد لديهم، ولوصول مسلمين من آسيا الوسطى من أجل العيش في روسيا”. وأشار إلى أنّ “ما يزيد على 400 مسجد ومركز ديني ومدرسة جرى إنشاؤها أو ترميمها منذ تأسيس دار الإفتاء في عهد الاتحاد الروسيّ عام 1994”. تعكس كلّ هذه المؤشّرات حجم الحرّية التي يتمتّع بها المسلمون في روسيا في حياتهم وفي ممارسة شعائرهم الدينية دون أيّ منغّصات.
يعتبر الإسلام ثاني أكبر الديانات في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية لكن لا توجد إحصاءات حكومية روسيّة تبيّن التوزيع العرقي
بعكس ما هو الحال في أميركا، حيث كشف مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية “كير”. في أحدث بياناته منذ أيّام قليلة، أنّ “الهجمات ضدّ المسلمين والتمييز ضدّهم خلال العام الماضي بلغت مستويات قياسية”. وأحصى “كير” زيادة في عدد الاعتداءات ضدّ المسلمين “بنسبة 56% عن عام 2022”. لذلك كان للهجوم الإرهابيّ على الحفل الموسيقي في “كروكوس” وقع سيّئ للغاية على المسلمين قبل سواهم من مكوّنات الأمّة الروسيّة.
بين “الروس فوبيا” و”الإسلاموفوبيا”
والحال أنّ تصريحات المسؤولين الروس، وفي طليعتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كانت شديدة الأهمّية. إذ أسهمت في تبديد قلق المسلمين، سواء في روسيا أو في الدول التي تعدّ جزءاً من الفضاء الروسي، من إمكانية تفجّر مشاعر الكراهية تجاههم.
بيد أنّ موسكو لم تكتفِ بذلك، بل حرصت على إبراز فدائية الفتى الروسيّ المسلم إسلام خليلوف، ذي الـ15 عاماً. الذي كان يعمل في مركز الترفيه في “كروكوس” بدوام جزئي، وحينما بدأ إطلاق النار بغزارة. سارع إلى مساعدة الناس، وعمل على إخراجهم من القاعة عبر مخرج الطوارئ. وتناقلت وسائل الإعلام الروسية أنّ خليلوف، الذي وصفته بـ”البطل”، ساعد نحو 100 شخص على الأقلّ.
بالتأكيد لم يكن إسلام خليلوف هو الشخص الوحيد الذي اندفع لمساعدة الناس، لكنّ السلطات الروسية سعت إلى إبراز تضحياته من أجل تبديد مشاعر القلق لدى المسلمين، والحؤول دون حصول أيّ ردود أفعال شعبية ضدّهم تحت وطأة تأثير الدعاية الغربية. وتأكيداً منها لذلك، قامت الحكومة الروسية بتكريم خليلوف. إذ منحته “مفوّضة حقوق الأطفال” في روسيا ماريا لفوفا-بيلوفا شهادة “التفاني والرجولة والشجاعة الشخصية في مساعدة الضحايا”.
تعدّ روسيا واحدة من الدول القليلة ضمن ما يعرف بـ”العالم الأوّل” التي قلّما جرى فيها تسجيل حوادث ضدّ المسلمين
كما منحه رئيس “الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية ومجلس مفتي روسيا”، راوي عين الدين، وسام “خدمة المسلمين بروسيا”، بسبب شجاعته وإنقاذه للناس. وجرى منحه الوسام عقب صلاة الجمعة في الجامع المركزي بموسكو بهدف الاحتفاء به وتسليط المزيد من الأضواء على ما قام به هذا الفتى المسلم، لتأكيد وحدة وتماسك “الأمّة الروسية” بكلّ أعراقها وطوائفها. وبالفعل لم تسجَّل أيّ حادثة، مهما كان حجمها أو نوعها، ضدّ المسلمين في روسيا، منذ حصول الهجوم الإرهابي. بما يعكس مدى نجاح الحكومة الروسية في تبديد مفاعيل الفتنة التي أُريد لها أن تندلع.
إقرأ أيضاً: انتخابات روسيا: المسلمون واليهود صوّتوا لبوتين.. لماذا؟
عمليّاً، نجحت روسيا التي خبِرَت طويلاً أحابيل الغرب وألاعيبه، والتي تواجه منذ سنوات تحريضاً غربياً ممنهجاً ضدّها. في استيعاب تأثير الهجوم الإرهابي في كروكوس، وتبديد مفاعيله بسرعة قياسية. وبالتالي لم تسقط “الروس فوبيا” في فخّ “الإسلاموفوبيا”. كما كانت تأمل أميركا ومن خلفها الغرب. ذلك أنّ موسكو تدرك تماماً أنّ كلتا الظاهرتين تنهلان من مَعين غربيّ واحد.