غزّة: موانئ الإغاثة وحكاية التهجير

مدة القراءة 5 د

التهجير من غزة في سياق السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى إضعاف الكثافة السكانية التي توفّر حاضنة فعّالة للمقاومة، ومنها المسلّحة بالذات. يظلّ هدفاً رئيسياً، وإن اضطرّت إسرائيل إلى عدم الإعلان عنه فإنّها دائمة العمل عليه.

عملية كبيرة كهذه تحتاج إلى توافر عناصر عديدة لإنجازها، وأوّلها أن تبدو كما لو أنّها طوعية، وثانيها ظهور موافقات من الدول التي تُرشّح لاستقبال المهاجرين، وثالثها وهو الأكثر أهمية في الأمر كلّه الاستعداد الغزّي للهجرة، على نحو يبرّر بأنّ غزة لم تعد مكاناً يصلح للعيش فيه.

في الماضي حدثت تجربة في هذا السياق، وذلك خلال العملية العسكرية الواسعة النطاق “الرصاص المصبوب” التي دفعت 700 ألف فلسطيني إلى اختراق السياج الحدودي مع مصر واجتياح سيناء، ولولا تدخّل السلطات المصرية بصورة فعّالة وحاسمة لإعادة النازحين إلى غزة بعد التوصّل إلى وقف لإطلاق النار، لامتلأت سيناء بالمخيّمات ولوجدنا أنفسنا أمام تجديد مأساوي لظاهرة اللجوء الفلسطيني. وهو ما ينهي القضية وينقل مفاعيلها الكارثية إلى الجوار العربي.

مع أنّ التهجير القسري لم يغادر مخيّلة وخطط الإسرائيليين إلى حدّ أنّ قادة الحرب والسياسيين دعوا أهلَ غزة إلى التوجّه إلى سيناء تلمّساً للنجاة من هول الحرب. إلا أنّ العملية أُفشِلت قبل أن تبدأ.

الهجرة لن تكون طوعية

في الحروب، وخصوصاً حرب الإبادة والتدمير الشامل التي تؤدّيها إسرائيل في غزة، لن تكون الهجرة طوعية حتى لو تغلّفت بمظاهر تشير إلى أنّها كذلك. بل هي قسرية بامتياز. إذ لا بيوت صالحة للسكن تؤوي الملايين ولا مرافق عامّة توفّر الحدود الدنيا للحياة ولا مدارس ولا مستشفيات. بل كومة من حطام لبلد وشعب أُجبر بفعل الحرب المنهجية ضدّه على أن يعيش في حاضنة موت، إن لم يأتِ اليومَ فغداً، وتحت وطأة مجاعة مبرمجة ومرض فتّاك لا تنجو منه حتى الأجنّة في البطون. وفي حالة كهذه فما إن ترسو سفينة في الموانئ المؤقّتة حتى تصبح الهجرة حقيقة، وستجد من دول العالم من يرحّب بالمهاجرين الجدد تحت مبرّر إنساني.

التهجير من غزة في سياق السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى إضعاف الكثافة السكانية التي توفّر حاضنة فعّالة للمقاومة، ومنها المسلّحة بالذات

غير أنّ عملاً كارثياً كهذا أنتجته كثافة النيران الإسرائيلية، بدل أن يحلّ معضلة تعاني منها الدولة العبرية فسوف يولّد معضلات جديدة. أصعب وأخطر من كلّ ما أنتجه الصراع العربي الإسرائيلي على مدى قرن من الزمن.

الغالبية العظمى من أهل غزة سوف تبقى متشبّثة بأرضها وممتلكاتها وحياتها على أرض وطنها، ولا مناصّ إذا ما توقّفت الحرب. وهي ستتوقّف حتماً، من انهماك الغزّيين في إعادة إعمار بلدهم، وإعادة الحياة لمستشفياتهم ومدارسهم وجامعاتهم. وذلك على صعوبة هذا الأمر يظلّ أفضل من تشرّد جديد إلى بلاد معروفة أو مجهولة، ومن حالة تذكّر بما حدث في عام 48. فعلى الرغم من مرور عقود ما زالت المخيّمات البائسة تملأ بلدان الجوار، وما زال الفلسطيني الذي اضطرّ إلى العيش في أيّ مكان من العالم يفتقر إلى أهمّ ما يمتلك الإنسان، وهو الهويّة والجنسيّة والكرامة والوطن.

حتى الآن لا دولة في العالم تظهر تشجيعاً وترحيباً بالفلسطينيين المرشّحين من قبل إسرائيل لهجرات قسريّة جماعية. غير أنّ ذلك لا يكفي لمعالجة قضية كبرى كهذه، فنحن حيال مليونين ونصف مليون يقيمون على أرض غزة. دون احتساب الغزّيين المنتشرين كلاجئين في جميع أرجاء الكون ويعدّون بما يزيد على مئات الألوف.

صحيح أنّ غزة بحاجة إلى إغاثة ودعم إلا أنّها بحاجة أكثر إلى أن تكون وطناً له دولة

الحلّ بإنهاء الحرب

الحدّ من هذه الظاهرة الخطرة والمسيئة للقيم والأخلاق الإنسانية، والمضرّة بالنسيج الاجتماعي للشعوب التي يمكن أن تُبتلى بهذه الظاهرة الخطرة، لا يكون بإجراءات إغاثية أو باستعدادات دولية لتسهيل الهجرة. ذلك أنّ الحدّ من هذه الظاهرة يكون أوّلاً ببذل جهد دولي فعّال وعاجل لإنهاء الحرب. وليس لمجرّد توسيع نطاق الإغاثة، وأن يبدأ اليوم التالي بعد الحرب بالعمل على بلوغ حلّ سياسي للقضية الفلسطينية. يفضي إلى قيام دولة حقيقية حرّة مستقلّة تستوعب مواطنيها في وحدة لجميع أراضيها التي احتلّت في عام 1967. إنّ أمراً كهذا وإن بدا صعباً بفعل التغوّل الإسرائيلي المنفلت من أيّ ضوابط على الفلسطينيين وعلى شعوب المنطقة بأسرها. فإنّ الأصعب منه والأخطر أن يواصل العالم التكيّف مع ما تنتجه إسرائيل من مآسٍ وكوارث. وما تخطّط له من مآلات فظيعة للشعب الفلسطيني ولشعوب المنطقة.

صحيح أنّ غزة بحاجة إلى إغاثة ودعم لأبسط مقوّمات الحياة فيها. إلا أنّها بحاجة أكثر إلى أن تكون وطناً له دولة تجمع كلّ الفلسطينيين وتدبّر أمورهم.

التهجير القسري، وإن برداء طوعي، لن ينهي القضية الأساس. فالفلسطيني الذي يعيش في قصر في أهمّ مدن العالم. يتّحد مع الذي يعيش في كوخ بمخيّم، في شعور واحد وانتماء واحد وحلم واحد. وهو أن يضعوا في جيوبهم هويّة وطنهم ودولتهم. وبغير ذلك لا التهجير بكلّ أشكاله ولا الإبادة سيؤدّيان إلى حلّ. فمثلما تتداول الأجيال ألم حرمانها من الوطن والهويّة فسوف تتداول المقاومة والتطلّع للحرية والاستقلال.

إقرأ أيضاً: كيف تغيّر غزة وجه العالم؟

هذا هو أصل الحكاية. فإن أدركها العالم وعمل على معالجتها وفقاً لذلك فهذا ما نرجوه ونتمنّاه ونسعى إليه. وإن لم يفعل فالنار ستظلّ مشتعلة ولا أحد يعرف إلى أيّ المساحات تمتدّ.

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…