كفى ثرثرة.. إنصرفوا إلى معالجة الأزمة

مدة القراءة 6 د

كفى ثرثرة. . .

الكلّ يدّعي المعرفة وامتلاك المعلومات التي تسمح له بتصنيف الناس بين فاسد وغير فاسد، ويرمي بالأرقام والأسماء التي  تُربك وتشوش على القارئ، أو المشاهد، وتمنعه من الاعتراض أو حتى التعليق. هذه الشخصيات بسبب نهج التخاطب والسلوكيّات أصبحت جذّابة للانتباه والاهتمام. ولكن إن توقّفنا وسألنا: ماذا أنجزت هذه المجموعات؟ نجد الجواب فوراً، وهو “ثرثرة ثمّ ثرثرة”. نعم كلّ ما أنتجته هو “ثرثرة”.

هؤلاء الثرثارون يعترفون بأنّ هذه السلطة فاسدة، ويذكرون العديد من الأمثال على ذلك. وفي الختام يطالبونها، أي مكوّنات السلطة الفاسدة، بالمساءلة والمحاسبة. ويظهرون استغراباً عندما لا يحصلون على ما يطالبون به.

ما زلنا، بعد أكثر من أربع سنوات على التخبّط بالأزمات، ننتقل من أزمة إلى أخرى. وبسبب فشل وفساد السلطة الحاكمة، نسترسل في توصيف الأزمات وتبيانها وكأنّها معطوفة على أفراد وليست أزمة نظاميّة وأزمة نظام. سوء إدارة الماليّة العامّة لسنوات، وسوء إدارة ما توافر من سيولة بالعملة الأجنبية في المصارف التجارية أوصلانا إلى فقدان تامّ للثقة بكلّ ما يأتي من الطبقة السياسية وزبائنها، وهو ما دفع بالمواطنين إلى الخوف على مصير العملة الوطنية وأن يسارعوا إلى تحويل ليراتهم إلى دولارات، وبالمودعين إلى الخوف على مدّخراتهم وأن يسارعوا إلى مطالبة مصارفهم بها في تشرين 2019، الأمر الذي تسبّب بأزمة مصرفية سرعان ما تحوّلت إلى أزمة نقدية عندما تعذّر على الحكومة الاستمرار في خدمة الدين العامّ في آذار 2020.

المسؤولية الجماعية

التعمّد في الابتعاد عن الإنقاذ وحلول جائحة كورونا ضيفاً غير مرحّب به دفعا بالوطن نحو أزمة اقتصادية عَرّف عنها البنك الدولي بأنّها ثالث أكبر أزمة خلال المئة والخمسين سنة المنصرمة. وأيضاً في غياب إرادة المبادرة إلى الإنقاذ أصبح لبنان على أزمة اجتماعية ومعيشية.

طبيعة وحجم الأزمة اللبنانية وكيفية تطوّرها لا تسمح بتحميل أسباب الأزمة لشخص واحد، أو لجهة واحدة

طبيعة وحجم الأزمة اللبنانية وكيفية تطوّرها لا تسمح بتحميل أسباب الأزمة لشخص واحد، أو لجهة واحدة. الاهتمام اليوم يجب أن لا ينصبّ على أسباب الأزمة (من هو الفاسد والفاسق)، أو من يتحمّل مسؤولية الدمار الذي أنتجته (توزيع الخسائر). بل على الإنقاذ والإنعاش والتعافي لتمكين الاقتصاد الوطني من النموّ. المشكل معروف وتداعياته أصبحت واضحة اليوم، فهل تُجمّد المعالجة بسبب غياب المساءلة؟

‏مرض السرطان ليس بسهل، والعلاج الكيميائي ليس برحلة استجمام. عندما يتمّ تشخيص هذا المرض عند شخص معيّن، يتوقّف الطبيب المختصّ عن الغوص بالأسباب ويذهب إلى الحديث عن العلاج وحظوظه بالنجاح وتخفيف الأوجاع. وأهل المريض تتغيّر حياتهم حتماً وتنطلق مسيرة الوعي والاهتمام بنمط عيش يخفّف من احتمال الإصابة بهذا المرض. العيش في حالة إنكار سوف يبعد الحلول ويعزّز حظوظ تكرار هذه الأزمة.

لبنان هو المريض المصاب بالسرطان، وأهل المريض هم الشعب اللبناني. ويجب أن تظهر عليهم الإرادة والرغبة في التغيير نحو الأفضل لمنع تكرار حدوث هذه الأزمة. التركيز بالتحديد في هذه المقاربة هو على الناخبين الذين يتحمّلون مسؤولية تثبيت الفاسد في السلطة من خلال انتخابه مراراً وتكراراً حتى بعدما تمّ اتّهامه وإدانته (الانتخابات البرلمانية في 2022). وهو ذاته، الفاسد، يُعرقل الحلول وتصويب الأداء في محاولة للحفاظ على مكاسبه. هذا باعتراف الجميع.

العلاج الموجع

خلاصنا اليوم ‏هو في العلاج الكيميائي أو الجلسات الكهربائية، وسوف يكون موجعاً، لكن لا خيار لنا بذلك. والاسترسال بالحديث عن المشكل وأسبابه لن يُجدي نفعاً اليوم ولن يكون أكثر من “ثرثرة”، تارة نقدية، وتارة أخرى سياسية.‏‎‎ الأزمة، ومسبّباتها (المساءلة والمحاسبة)، وتداعياتها (هنا تبدأ أهمّية الإنقاذ)، ومعالجتها (حتى بالكيميائي إذا اضطررنا) هي خطوط متوازية لا تلتقي، ونجحت السلطة الفاسدة بتحقيق ذلك. وباركنا، نحن الناخبين، هذا النجاح المسرطن بانتخابهم لتولّي لسلطة من جديد في أيار 2022. كانت نتائج الانتخابات بمنزلة تصويت بالثقة والدعم لمن أَفسَدَ حياتنا. وهل نرفض المعالجة بسبب غياب المساءلة؟!

خلاصنا اليوم ‏هو في العلاج الكيميائي أو الجلسات الكهربائية، وسوف يكون موجعاً، لكن لا خيار لنا بذلك

تأتي الحلول من خلال عدد من الجرعات: جرعة من القطاع الخاصّ في “مبادرة”، وجرعة أخرى من السلطة التنفيذية في “مراسيم” حتى لو كانت سلطة تصريف أعمال، وجرعة ثالثة من السلطة التشريعية في “قوانين”، وجرعة رابعة من السلطة النقدية في “تعاميم”. كلّ هذه الجرعات ضرورية وأساسية لكن ليس في الوقت ذاته. وكلّ طرف من هؤلاء قادر على التصرّف، إذا توافرت الإرادة، من دون التأثير على غيره.

بسبب غياب الإرادة عند الطبقة السياسية، التنفيذية والتشريعية، وأيضاً بسبب تحصّن السلطة النقدية وراء فشل السلطة الحاكمة واستثمار ذلك ذريعة لتجميد أيّ مبادرة إنقاذ جدّية. لم يبقَ سوى الاعتماد على مكوّنات القطاع الخاصّ الذي أظهر قدرات مميّزة على الصمود والتأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية. ونجح نسبياً في إنقاذ ذاته والانتعاش. لذلك أطالب المصارف والمصرفيّين بالمبادرة إلى إطلاق عجلة حلّ الأزمة، في ما يخصّ القطاع المصرفي، وكلّ مصرف على حدة لتفادي “الانقراض”. منصوري، وسلامة من قبله، حافظا على جميع المصارف بكلفة باهظة دفع كلفتها أصحاب الودائع بالدولار المحلّي. المشهد النقدي تغيّر اليوم، والمصرف الذي يماطل بإطلاق عجلة الإنقاذ سوف يواجه مصيره بالانقراض. التواصل الإيجابي والمنتج بين المصرف والمجتمع اللبناني، من فرد و/أو مؤسّسة، هو نقطة إطلاق حميدة وممكنة وضرورية. لن يكون الحلّ الأنسب  في الاستمرار في توفير السيولة الخجولة، التي لا تشفي غليلاً بل تزيد من الشعور بالإحباط والإجحاف بحقّ المودعين.

إقرأ أيضاً: بداية حل الأزمة المصرفية توصيفها

يكون الحلّ بالسماح لأصحاب الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي بتحويل أرصدة حساباتهم (أو جزء منها. يجب أن يعود القرار لصاحب الحقّ الاقتصادي للوديعة) إلى الليرة اللبنانية على سعر الصرف 89,500 ليرة للدولار الواحد (أو أيّ سعر صرف آخر منطقي)، وينصرف عندها مصرف لبنان إلى إدارة السيولة والحدّ من الاضطرابات التي قد تحصل بسبب غياب الرقابة.

الكلّ يجتمعون على “صفر ثقة بالسياسيين، الفاقدي إرادة إحداث أيّ تغيير”.

 

*خبير المخاطر المصرفيّة والباحث في الاقتصاد.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…