“مجزرة دراماتيكية في دمشق”، قال صحافي إسرائيلي بعد دقائق من إعلان نبأ القصف الذي استهدف مبنى في حيّ المزّة الدمشقي. أكّدت طهران أنّه مقرّ القنصلية الإيرانية الملاصق للسفارة، في حين أصرّت إسرائيل على أنّه مبنى تابع للحرس الثوري.
الحادثة “دراماتيكية”، بحسب الوصف الإسرائيلي، لا لأنّها استهدفت وسط العاصمة السورية التي اعتادت الغارات الإسرائيلية شبه اليومية. بل لأنّها استهدفت شخصية إيرانية، وصفتها أجهزة الأمن الإسرائيلية بأنّها الأبرز بعد قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني الذي اغتالته واشنطن في مطار بغداد قبل سنوات. المستهدف هو الجنرال محمد رضا زاهدي (المعروف بمحمد مهدوي)، قائد قوّة القدس في لبنان وسوريا في الحرس الإيراني.
لم تتبنّ إسرائيل عملية الاغتيال رسمياً، لكنّ بصماتها واضحة ولا تحتاج إلى إثبات. يكفي ما قاله وزير حربها يوآف غالانت من أنّ “تل أبيب تعمل على أكثر من جبهة كي توضح لأعدائها في كلّ مكان بالشرق الأوسط أنّ ثمن أيّ عملية ضدّها سيكون باهظاً”.
ثمّة فارق بين الهجوم الجديد وسلسلة الهجمات الكبيرة التي سبق أن تعرّض لها القادة الإيرانيون في سوريا منذ “طوفان الأقصى”. الفارق أنّها استهدفت أرضاً إيرانية بحسب الأعراف الدبلوماسية والقانونية. هذا تحدٍّ كبير لإيران لأنّه بمنزلة نقل للمعركة إلى داخل أراضيها. فهل يكفي هذا الخرق الكبير كي تعيد قيادتها النظر في سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي اعتمدتها نهجاً لامتصاص الضربات ومواصلة حروبها بالوكالة من خلال الحلفاء والأصدقاء؟
ما هو الردّ الإيرانيّ؟
هدّدت القيادة الإيرانية وتوعّدت. لكن ما هو الردّ الذي يتوقّعه وينتظره الفاعل الإسرائيلي؟ وهل يدفع ذلك طهران إلى التخلّي عن الصبر الاستراتيجي والدخول في المواجهة المباشرة؟
الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي يعقوب عميدرور، وهو من كبار المحلّلين الاستراتيجيين الإسرائيليين. استبعد في مقال نشره الموقع الإلكتروني للقناة 12 العبرية أيّ ردّ من شأنه أن يؤدّي إلى تصعيد القتال في لبنان بين إسرائيل والحزب، “لأنّه ليست لدى إيران مصلحة بخوض حرب كبيرة الآن سيتضرّر خلالها الحزب بشكل كبير”.
إسرائيل باتت مستعدّة للّعب وفق قواعد الحرب المتعدّدة الساحات التي وضعها القادة الكبار للحرس الثوري
أضاف عميدرور الذي تولّى دائرة الأبحاث في شعب الاستخبارات العسكرية أنّ إيران “أقامت طوال سنين استراتيجية ذكيّة لمحاربة إسرائيل. فمن جهة تسعى إلى تطوير قدرة نووية عسكرية. ومن جهة ثانية تحافظ على وتيرة إشغال لتل أبيب من خلال إحاطتها بـ”حلقة نيران” متمثّلة بالحزب و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” والميليشيات في سوريا”.
أكّد أنّ “إسرائيل تعاني مشكلة في مواجهة منظومة القوات التي أقامتها إيران حولها. لذلك ثمّة أهمّية بالغة للقضاء التامّ على ما تمثّله “حماس” و”الجهاد الإسلامي” من قوّة عسكرية في غزة”. وأنّها لن تسمح لـ”عناصر حلقة النيران القريبة أن تمارس القوّة العسكرية بشدّة بالغة”. والمشكلة هذه لدى إسرائيل تقابلها طهران “بالنأي بنفسها بحيث تكون بعيدة وغير ضالعة”. أي أنّها “لا تتحمّل مسؤولية مباشرة عن أيّ عملية تنفّذها أذرعها ولا توجد أيّ طريقة لإثبات أنّها اليد التي تحرّكها”. قارب عميدرور العملية على أنّها “أشبه بالأخطبوط الذي يبدو مركزه ودماغه غير مسؤولين عن عمليات أذرعه الطويلة. ولذلك لا يوجد إمكان شرعي للعمل ضدّه بوسائل علنيّة. وحتى لو نجحت إسرائيل في تقليص قدرة إيران على استخدام أذرعها في غزة إلى الحدّ الأدنى. فستبقى بمنأى عن التضرّر وستبقى بعيدة ومحميّة”.
من هنا جاءت العملية حسب الجنرال الإسرائيلي رسالة تحذير من مغبّة الإفراط في التصعيد. لا سيما بعد إطلاق طائرة مسيّرة من العراق في اتجاه القاعدة العسكرية البحريّة في إيلات، وانفجرت على مقربة من سفينة “ساعر 6”.
رأى الجنرال الإسرائيلي أنّ الاغتيال “لن يؤدّي إلى انهيار الحرس الثوري الإيراني. إلا أنّه سيجعل قادته يواجهون صعوبة في تنفيذ عملياتهم في الأرجاء”. لافتاً إلى وجود صعوبة في إيجاد خلفاء ملائمين للقادة الذين تمّت تصفيتهم. فحتى الآن لم يجد الحرس الثوري من يملأ فراغ قاسم سليماني ولم يجد الحزب من يحلّ محلّ عماد مغنية. ويرجّح أن تبحث إيران “عن هدف مؤلم ووحيد لا يؤدّي إلى تصعيد إقليمي تماماً كما حصل ضدّ سفارة إسرائيل في الأرجنتين”.
أكّدت طهران أنّه مقرّ القنصلية الإيرانية الملاصق للسفارة، في حين أصرّت إسرائيل على أنّه مبنى تابع للحرس الثوري
أمّا المحلّل في صحيفة “معاريف” عيدان زلكوفيتس فرأى أنّ غارة المزّة تأتي في سياق تحطيم القواعد مع إيران، وأنّ المواجهة انتقلت إلى المرحلة التالية. وكاد يجزم أنّ “حرب الظلال” المعمول بها منذ سنوات بين الطرفين انتهت في غارة حيّ المزّة، وأنّ إسرائيل باتت مستعدّة للّعب وفق قواعد الحرب المتعدّدة الساحات التي وضعها القادة الكبار للحرس الثوري الإيراني، ومن ضمنهم الجنرال المستهدف زاهدي لأنّه “العقل المدبّر لقيام جبهة سورية إيرانية لبنانية، والمسؤول عن رسم خطّة الطريق للصراع المستقبلي على الجبهة الشمالية”.
وفي رأي زلكوفيتس أنّ أصداء الانفجارات في الحيّ الدمشقي ونتائج هذا العمل “الدقيق استخباريّاً”، “يجب أن تسمع جيّداً في بيروت”. واضعاً الأمر في مسار استعادة مفهوم الردع الذي تضرّر في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل). في إطار “لعبة الشطرنج الدائرة بين إسرائيل وإيران كجزء من المعركة بين الحروب”. وأضاف أنّ أيّ مواجهة واسعة مع الحزب سوف تؤدّي إلى حرب مدمّرة. وتالياً فإنّ حرباً كهذه لن “تخدم الهدف الإيراني الأسمى والمتمثّل بالحفاظ على قوّة الحزب من أجل استخدام هذه القدرة في حال نشوب مواجهة مباشرة مع إسرائيل. وإذا ما أقدمت الأخيرة على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية”.
هل تحتوي إيران غارة دمشق؟
أبعد من يعقوب عميدرور وعيدان زلكوفيتس، توقّع الباحث في معهد دراسات الأمن القومي راز تسيمت في مقالة بجريدة “يديعوت أحرونوت” أن لا تكون إيران قادرة على احتواء الاغتيال في دمشق، وأنّ هذه الاغتيالات التي صار عددها 19 اغتيالاً منذ “طوفان الأقصى” تمثّل معضلة حقيقية. فحسب تسيمت ستخسر إيران من أرصدتها إذا اكتفت بما حصل عقب اغتيال القيادي في “حماس” صالح العاروري والجنرال الإيراني رضا موسوي “باستهداف سفينتين ذات ملكية إسرائيلية في المحيط الهندي وضرب أهداف في كردستان العراق تعتبرها إيران مقرّات للموساد”. لكنّه لم يستبعد أن تعمد طهران إلى تغيير ميزان حساباتها الخاصة، لأنّها لن تكون قادرة على الاستمرار في سياسة الاحتواء حتى لو كان الثمن المخاطرة بتصعيد إضافي. إمّا عبر الحلفاء، وضمنهم الحزب، أو بصورة مباشرة.
ثمّة فارق بين الهجوم الجديد وسلسلة الهجمات الكبيرة التي سبق أن تعرّض لها القادة الإيرانيون في سوريا منذ “طوفان الأقصى”
بيد أنّ الهدف الأعلى لإيران كان ولا يزال السعي إلى تطوير القدرات النووية الكافية لامتلاك السلاح الجبّار، الذي تدرك طهران أنّه وحده القادر على حماية أراضيها من أيّ هجوم خارجي. وتثبيت نفوذها الإقليمي المترامي الأطراف، وليس الصبر الاستراتيجي إلا الوسيلة الأسهل لتدارك أيّ خطر مباشر. ولا سيما من إسرائيل، ومنحها فرصة لدكّ المفاعلات قبل جهوزيّتها للعمل.
إقرأ أيضاً: أين عرب 48 من العدوان على غزّة؟
بعد سلسلة الضربات الموجعة، بدأت أصوات تعلو في طهران تطالب بوجوب العودة عن فتوى تحريم حيازة استخدام السلاح النووي وإصدار حكم بضرورة إنتاجه واستخدامه عند الضرورة. حتى لو كلّف الأمر الخروج من معاهدة انتشار الأسلحة النووية والقطع مع وكالة الطاقة الذرّية. وربّما إسرائيل نفسها تتحسّس من أنّ حرباً متعدّدة الجبهات بينها وبين حلفاء إيران تخدم هذا الهدف الإيراني الكبير. فهل تفعلها إسرائيل وتفجّر خزّان الصبر الإيراني قبل نجاحه في إتمام مهمّته النووية العليا. أم تستغلّه للقضاء المبرم على أيّ مقاومة على أرض فلسطين التي تريدها إسرائيلية خالصة كهدف استراتيجي لها؟ أم يبقى الردّ الإيراني على الوعد التقليدي “سوف نردّ في الوقت المناسب”. وهو الوقت الذي لم يأتِ سابقاً وقد لا يأتي لاحقاً.