ثمّة خصامٌ شديدٌ بلغَ أحياناً حدّ العداء الشرس، بين سمير جعجع وجبران باسيل، بصفة الأخير وريثاً لميشال عون.
مع أنّه لا دمَ مباشراً بين الاثنين. لكنّ المواقف وصلت إلى حدّ محاولة استدراج الدم. بكلامٍ تخوينيّ تحريضيّ خطير، كان يمرُّ عابراً بين محطّات التقاطع والتفاهم والتصالح والتباحث … العابرة.
لكنّ الأهمّ أنّ ثمّة شيئاً مشتركاً بين الرجلين، أعمقُ من سجالاتهما وشجاراتهما. بينهما مشتركٌ حَكمَ العقود الثلاثة الماضية. وقد يرسمُ مستقبل لبنان بنظامه وسكّانه ومفهوم دولته، لعقودٍ مقبلة.
*******************
كان نادر السكّر الرجل الثاني إلى جانب سمير جعجع. منذ بدايات بشرّي والشمال وحرب الجبل ونضالات القطّارة والفيدار والانتفاضات… وصولاً إلى قيادة القوّات وحرب الأخوة، وانتهاء باتفاق الطائف.
إلى أن افترق الرجلان منتصف عام 1992، في حمأة السجال والمواقف حيال مسرحية الانتخابات النيابية التي ركّبتها منظومة الوصاية السورية وفرضتها صيف ذلك العام.
كان سكّر من القائلين بضرورة المشاركة في تلك المحطّة. ناصحاً بأنّه إذا كان المطلوب، ومن المحقّ ربّما، أن يُعطى جعجع موقع الشريك المسيحي الأكبر في سلطة الطائف. كما أُعطيَ الرئيس نبيه برّي شيعياً ووليد جنبلاط درزياً. فإنّ هذا الأمر ممكن بالتدرّج والتمرحُل. ولا يمكن انتزاعه من السوري منذ اللحظة الأولى. وبكلّ الأحوال، فإنّ المقاطعة يستحيل أن تحقّق هذا الهدف. فضلاً عن حجج كثيرة بعضها تخطّاها الزمن. وبعضها الآخر لا يزال يحيا معنا ويتكرّر.
فيما كان رأي سمير جعجع معاكساً. وخلاصته أنّ الطائف الذي قبل به، ولو على مضض، قد سقط وتمّ الانقلاب عليه. لا بل اغتيل. فهو ارتضى بطائف رينيه معوّض اللبناني السيادي الميثاقي العربي والدولي. فيما يُطلب منه حينها الرضوخ لطائف الياس الهراوي، المناقض تماماً في كلّ مفردة ومفهوم من تلك المعادلة.
ثمّة خصامٌ شديدٌ بلغَ أحياناً حدّ العداء الشرس، بين سمير جعجع وجبران باسيل، بصفة الأخير وريثاً لميشال عون
قال سكّر بالبقاء ضمن التركيبة ومحاولة تحسين ظروفها وتحصين مشاركة سمير جعجع وما يمثّله فيها.
بينما قال الأخير بضرورة الخروج منها كتركيبة سلطة وصاية. وتسجيل الاعتراض المبدئي عليها لبنانياً وعربياً ودولياً، بربط نزاعٍ، يُشبه مقولة: “إن عدتم إلى الطائف الأصيل نعُد فوراً إليه”!
يومها افترق الرجلان. وأطلق سكّر معادلته – النصيحة الشهيرة: خوفي أن ندفع ثمن الطائف مرّتين: مرّة أولى بدخولنا فيه. ومرّة ثانية بخروجنا منه.
نادر سكّر.. مجدّداً
شيءٌ مماثل أو حتى مطابق لتلك المرحلة، يعيشه كما يبدو جبران باسيل اليوم.
دخل جبران باسيل اتفاق مار مخايل سنة 2006، أو أدخله فيه ميشال عون، لا فرق.
في حينها كان الحزبُ محاصراً وشبه مأزوم. حليفه السوري خرج من لبنان وبات معزولاً عربياً وملاحَقاً دولياً.
سارعت يومها مرجعيّته الإيرانية للتوسّط له مع فرنسا الشيراكيّة. واضطرّ الحزب مباشرةً إلى التحالف الانتخابي مع سمير جعجع وهو في معتقله. وحتى الذهاب إلى مغازلة “القوات” باستذكار بشير الجميّل وشعار الـ10,452 كلم2، في مهرجان انتخابي مشترك سنة 2005.
باختصار بدا عون ومعه جبران باسيل حينها، حاجةً لبنانية للحزب الخارج من زلزال اغتيال رفيق الحريري وتداعياته. وضرورة لتوفير الغطاء المسيحي واللبناني لدوره وسلاحه يومها.
تماماً كما دخل سمير جعجع الطائف سنة 1989، فيما سوريا – حافظ الأسد في وضع غير مريح، على الأقلّ. فهي محاصرة لبنانياً بحروب عون ضدّها. ومعزولة عربياً بلجنة منبثقة من الجامعة وموفدٍ وتقرير يدينها. وباهتزازٍ دولي كبير، نتيجة تراجع حليفها السوفيتي، وتقدّم غريمها العراقي في المنطقة وفي لبنان مباشرة.
فبدا سمير جعجع حاجة مسيحية أساسية وضرورية لعرّابي الطائف عربياً ودولياً، ولتوفير الغطاء المسيحي المطلوب للاتّفاق.
في حالة جبران باسيل، فالأكيد المؤكّد أنّ لبنان، وناسه تحديداً، لا يملكون ثلاثة عقود أخرى من الترف، أو من القرف، لانتظار حكم التاريخ
شهران من العسل: 1989 – 2006
عاش الأربعة شهرَيْ عسل، على ضفّتي كلٍّ من الاتفاقين. مع فارق في المهل والمدد والآجال. تسارع الزمن في حالة جعجع واتفاق الطائف. فيما تباطأ الزمن نفسه مع ميشال عون وجبران باسيل واتفاق مار مخايل.
عاش جعجع شهر عسل سريعاً عابراً مع فريق الطائف وشركائه السابقين.
فيما عاش عون ومعه جبران باسيل سنوات عسل مع شريك مار مخايل وملحقاته الدائمين.
حتى فجّر صدّام حسين المشهد الأوّل. اجتاح الكويت في 2 آب 1990. فانقلب الوضع الإقليمي رأساً على عقب.
فجأة جاءت واشنطن بجيوشها إلى المنطقة. دفاعاً عن حلفائها فيها. وفجأة وقف حافظ الأسد مع بوش الأب. صار حليفاً في “درع الصحراء”. والأهمّ أنّه صار حاجة أميركية وضرورة لواشنطن وشريكاً في مشروع سلامها عبر “مؤتمر مدريد”. وبات غطاء عربياً أساسيّاً لنظامها العالمي الجديد.
فتراجعت أهمّية لبنان كلّه في المشهد. صارت بيروت مجرّد فاصلة في الاتفاق الأميركي السوري. طلب الأسد ابتلاعها. فكان له ما أراد. سقط ميشال عون. ولم يلبث أن انتفت الحاجة إلى دور سمير جعجع في اتفاق الطائف. لا بل انتفى الطائف نفسه. ليحلّ محلّه “محور” أميركي سوري جديد، استمرّ عقداً ونيّفاً.
في المقابل، تباطأ زمن المماثلة نفسها بين طرفَي اتفاق مار مخايل (2006). حتى كانت حرب سوريا.
فبعد خمس سنوات على تفاهم عون ونصرالله، اندلعت فجأة حربٌ شبه دولية في دمشق. ذهب الحزب للمشاركة فيها. وفجأة تبدّلت تموضعات وموازين قوى ومعادلات. تقدّمت روسيا بعد إيران نحو الساحة السورية. انكفأت أميركا – باراك أوباما حتى تركت معارضي الأسد يُسحقون. حتّى إسرائيل رفضت الفوضى على حدودها الشمالية ودعت إلى بقاء نظام اتفاق الجولان جاراً حَسن الجوار…
فخرج الحزب منتصراً من حرب سوريا. وصار دوره الإقليمي أكبر من حجمه اللبناني. لا بل أكبر من لبنان.
تسارع الزمن في حالة جعجع واتفاق الطائف. فيما تباطأ الزمن نفسه مع ميشال عون وباسيل واتفاق مار مخايل
الحزب يفاوض أميركا… عبر إسرائيلي
تطوّرت الأمور أكثر. اقتربت واشنطن من طهران. ثمّ تقاربت طهران والرياض. صار الحزب لاعباً على مستوى المنطقة. أولويّاته السعودية وأميركا. فلا حاجة له إلى غطاء مسيحي لدوره ولا لسلاحه. بعدما غطّته واشنطن وتل أبيب. حتى أرسلتا إليه موفداً يحمل جنسيّتيهما معاً، للتفاوض معه والاتفاق معه أيضاً، على معاهدة دولية، والاحتفال المشترك معه بها. ولو بشكل سرّي وفي مكانين متباعدين في الجغرافيا.
بينما الشريك الآخر في تفاهم مار مخايل، يتراجع ويتضاءل. ويدخل في متاهة صدامات مع كلّ ما يتحرّك على الأرض، تبدأ من عقوبات واشنطن، ولا تنتهي بخلافات البيت وإقصاءات كلّ دروع الحماية.
سكت سمير جعجع على الانقلاب على الطائف أقلّ من سنتين. جاءت الانتخابات النيابية سنة 1992. فقرّر الخروج من تركيبة سلطته. وربْطَ النزاع مع أساسه وأصله. ذاهباً إلى المعارضة… حتى كان بعدئذٍ ما كان. فقيل إنّ نادر سكّر أصاب في نصيحته يومها. إذ دفع جعجع شعبياً ثمن دخوله الطائف. ثمّ دفع شخصياً وجسدياً وعنفيّاً، ثمنَ خروجه منه.
بعد عقدين ونيّف، يبدو أنّ جبران باسيل أمام تكرار المماثلة نفسها. سكت على ما اعتبره انقلاباً على اتفاق مار مخايل، أعواماً أو أقلّ أو أكثر. حتى جاءت الانتخابات الرئاسية. فقرّر رفع صوته. وكأنّه يعلن الخروج من التفاهم. وهو من دفع شعبياً ثمن دخوله سنة 2006. وقد يدفع أكثر ثمن خروجه منه سنة 2024.
سكت جعجع على الانقلاب على الطائف أقلّ من سنتين. جاءت الانتخابات النيابية سنة 1992. فقرّر الخروج من تركيبة سلطته
كيف “ينجو” جبران باسيل؟
ما الذي قد يجنّب جبران باسيل هذا المطبّ؟ تماماً ما كان يمكن أن يُجنّب سمير جعجع ما حصل بين عامَي 1992 و1994:
– إمّا مظلّة لبنانية جامعة صلبة، حول مفهوم الدولة.
– وإمّا مظلّة عربية وأميركية مشتركة، تحمي لبنان.
والاحتمالان لم يتوفّرا لجعجع يومها. والاحتمالان مطروحان على باسيل اليوم. مع فارق أنّ الخارجَ خارجٌ عن خدمته. فلا يبقى له إلّا الداخل. فهل يدرك أنّ مقتضى المظلّة اللبنانية الضرورية له، يبدأ برئيس قويّ يحمي البلد ويبني الدولة، وبالتالي يحميه؟ أم يكرّر أخطاء الآخرين؟
تبقى ملاحظة منهجية. في حالة سمير جعجع وسكّر، وبعد ثلاثين عاماً على جدليّتهما، قد يكون من المستحيل الجزم من كان على حقّ، بمنطق التاريخ وحكمه.
إقرأ أيضاً: حين “يَعلَق” موكب ميقاتي بعجقة السير!
أمّا في حالة جبران باسيل، فالأكيد المؤكّد أنّ لبنان، وناسه تحديداً، لا يملكون ثلاثة عقود أخرى من الترف، أو من القرف، لانتظار حكم التاريخ!