ربّما المجزرة، التي نُفّذت في مجمع “كروكوس سيتي هول” الموسكوفي، هي الجرح الأكبر الذي يصيب فلاديمير بوتين منذ جلوسه في الكرملين سيّداً مطلقاً لروسيا. لكنّ هجوم موسكو، مع فظاعته، لن ينال من سطوته وهيبة حكمه. خصوصاً بعدما مدّته الانتخابات الأخيرة بجرعة قويّة من المعنويّات والتفويض الشعبي. الذي يؤكّد أنّه لا يزال يمثّل ما يتطلّع إليه الشعب الروسي. من طموح إلى استعادة بلاده مجداً مفقوداً منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وتبعثر أجزاء الإمبراطورية العظمى دولاً صغيرة وكيانات متفرّقة.
أيّاً كان الفاعل أو المخطّط لـ”هجوم موسكو”، الذي صعق روسيا في قلبها، والأهداف المتوخّاة من ورائه، فإنّ بوتين أظهر منذ اللحظة الأولى أنّه مصمّم على توجيه نتائجها وارتداداتها إلى حيثما يريد. حتى قبل صدور نتائج التحقيق وإظهار الأدلّة في ما جرى في المجمّع الترفيهي الذي تقصده البورجوازية الروسيّة. تلك التي تشكّل صمام أمان الحكم البوتينيّ.
إعلان “ولاية خراسان” في تنظيم “داعش” مسؤوليّتها عن الهجوم لا يمكن نفيه بالضرورة. إنّها ليست المرّة الأولى التي تضرب فيها هذه المجموعة المتطرّفة أهدافاً روسيّة. فقد تبنّت في السابق تفجير الطائرة التي كانت تقلّ ركّاباً روساً من شرم الشيخ المصرية إلى مدينة بطرسبرج عام 2015. والهجوم على السفارة الروسية في كابول عام 2022. كما أكّد جهاز الأمن الفدرالي الروسي أنّه أحبط في وقت سابق من هذا الشهر هجوماً على كنيس يهودي في موسكو كان يعدّه التنظيم نفسه.
أيّاً كان الفاعل أو المخطّط لـ”هجوم موسكو”، فإنّ بوتين أظهر منذ اللحظة الأولى أنّه مصمّم على توجيه نتائجها وارتداداتها إلى حيثما يريد
لـ” تنظيم داعش”، إذا كان هو الفاعل المباشر للهجوم أو المفعول به بشكل غير مباشر، أهداف عدّة وراء هجوم موسكو:
– أوّلها، إظهار أنّ روسيا – بوتين دولة ضعيفة هشّة وغير مستقرّة أمنيّاً، وبالإمكان ضربها في العمق. هذا ما يعنيه دخول مسلّحين مدجّجين بالسلاح وتنفيذهم هجوماً في ضواحي موسكو والتمكّن من الهروب لمسافات شاسعة. وذلك بعد أشهر قليلة من تمكّن قوات “فاغنر” الروسية المتمرّدة في الصيف الماضي من اختراق الطريق الواصل بين جنوب البلاد الغربي والعاصمة من دون أيّ عوائق. الأمر الذي يشير إلى ثغرة أمنيّة كبيرة يمكن لأيّ جهة استخبارية أو متطرّفة أن تستغلّها. وتالياً يمكن عبرها إلهاء أجهزة الأمن الروسية بالداخل بدلاً من التفرّغ لعمليّاتها في الخارج.
– ثانيها، بثّ الفتنة بين روسيا ومسلميها. الذين يتجاوز عددهم 20 مليوناً. وهم في تكاثر ديمغرافي مستمرّ على عكس الروس الآخرين. ولديهم جمهوريات ذات حكم ذاتي في الشيشان وداغستان وتتارستان وغيرها من الكيانات العرقية الطامحة ضمناً إلى الاستقلال عن موسكو.
– ثالثها، توتير العلاقات بين روسيا وجيرانها الدول السوفيتية المسلمة السابقة في آسيا الوسطى. مثل طاجكستان (التي ينحدر منها بعض المهاجمين)، وأوزبكستان، وقيرغيزستان، وتركمانستان. وكازاخستان، التي تبحث عن تموضع جديد لها في ظلّ الصراع الدولي المحموم على هذه المنطقة الاستراتيجية بين روسيا وأميركا والصين وتركيا.
– رابعها، الإساءة إلى العلاقة بين روسيا وتركيا. الدولة الوحيدة في الحلف الأطلسي التي لا تزال تقيم صلات وصل مع موسكو. وتوفّر لها خطّ أمان في البحر الأسود. وقد أشارت التحقيقات الأولى إلى اعتراف أحد الموقوفين في الحادث بأنّه جاء إلى روسيا من تركيا.
موسكو: “داعش خراسان” مجرّد “بيدق”
تبنّى التنظيم هجومَ موسكو. ونجحت السلطات الروسية في اعتقال المنفّذين أثناء محاولتهم الفرار إلى أوكرانيا. لكنّ بوتين والقيادة الروسية لديهم قناعة بأنّ التنظيم ليس سوى “بيدق” على رقعة “الشطرنج” الدولية. وأنّه جرى توظيفه من دول أخرى لتنفيذ الهجوم.
تبنّى التنظيم هجومَ موسكو. ونجحت السلطات الروسية في اعتقال المنفّذين أثناء محاولتهم الفرار إلى أوكرانيا
انصبّ كلّ التركيز الروسي على إظهار دور لأوكرانيا في ما حصل. وتجاهلت موسكو حتى الإشارة إلى “داعش”. انطلاقاً من واقعة أنّ المهاجمين اعتُقلوا أثناء محاولتهم الهرب عبر الحدود الأوكرانية. ومن شأن إلباس كييف تهمة تنفيذ المجزرة، قلب كلّ المعادلات والموازين في “العملية العسكرية الخاصّة” التي سمّاها الكرملين للمرّة الأولى “حرباً”.
ستجعل موسكو من “كروكوس” 11 أيلول روسيّة. وسيحاول بوتين توظيف هجوم موسكو في إجراء تغيير جوهري في الميدان.
قبل الهجوم كان بوتين، في نظر الغرب والمعارضين الروس وبعض الحلفاء، معتدياً على أوكرانيا. بادر إلى فتح النار واختراق الحدود وضمّ أراضي دولة “شقيقة” ومجاورة. بعد الهجوم الذي يصرّ على إلصاق المسؤولية عنه بكييف، سيحاول الظهور بمظهر المعتدى عليه وعلى بلاده وأهلها الآمنين في قلب روسيا. سيعمد إلى رفع التعبئة وإسكات الأصوات الداخلية التي لا تزال تعارض الحرب والتجنيد والذهاب إلى الجبهة. سيعطي الجيش الروسي حافزاً للانخراط بعزيمة أكبر في المعركة تحت شعار: الدفاع عن الوطن والروس وردّ العدوان، لا غزو أراضي الآخرين. وسيرفع وتيرة التصنيع الحربي وزجّ كلّ إمكانات الدولة ومواردها في الحرب على أنّها مهمّة وطنية كبرى ردّاً على المأساة.
بوتين يواجه “تغيير الخرائط” وماكرون
تشعر موسكو بعد الهجمة “الماكرونيّة” الأخيرة عليها، وإعلان فرنسا استعدادها للمشاركة المباشرة في دعم كييف عسكرياً، أنّ ثمّة محاولة غربية وأطلسية لتغيير خرائط الجبهات القتالية لمصلحة الجيش الأوكراني. وذلك قبل موعد الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل. والهدف هو منح الرئيس الأميركي جو بايدن فرصة للإفلات من هزيمة انتخابية باتت مرجّحة. لمصلحة الخصم الأكبر للاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي والدعم المادّي لأوكرانيا: دونالد ترامب. وتالياً قد يجد بوتين في 11 أيلول الروسيّ فرصة لكسر “الاستاتيكو” الحالي في أوكرانيا. وليضمّ مناطق أوكرانية جديدة إلى الاتّحاد الروسي.
ستجعل موسكو من “كروكوس” 11 أيلول روسيّة. وسيحاول بوتين توظيف الهجوم في إجراء تغيير جوهري في الميدان
عين بوتين على مدينة أوديسا الأوكرانية ومينائها الكبير على البحر الأسود الذي صار أبرز نقطة عبور لوصول المساعدات الغربية لأوكرانيا، بما في ذلك الأسلحة. إذا خسرت كييف هذا الموقع الاستراتيجي الحيويّ فستصبح كياناً إدارياً ميئوساً منه. حتى لو بقيت مسيطرة على أراضٍ شاسعة والمراكز الصناعية الكبرى. غزو أوديسا يعني السيطرة على جنوب بودوليا بأكمله. الذي يضمن الوصول إلى ترانسنيستريا، منطقة الحكم الذاتي الموالية لموسكو في قلب مولدوفا المحاذية لرومانيا الأطلسية.
كتبت الصحف الروسية أنّ التكهّنات حول توجيه القوات الروسية ضربة محتملة لأوديسا لم تعد مجرّد خيال. باعتبار أنّ الاختراقات العميقة مع تدمير البنية التحتية العسكرية للقوات المسلّحة الأوكرانية قادرة على تغيير تكوين الجبهة بالكامل.
قد لا يكون هجوم موسكو وصفة فقط لتأجيج الصراع في أوكرانيا. بل وفي أماكن يتشابك فيها الوجود الروسي مع التنظيمات الجهادية مثل “داعش” و”القاعدة” وأخواتهما. ويحاذي النفوذ الغربي والمصالح الأميركية. سواء في سوريا أو الدول الإفريقية التي بدأ ينشط فيها “الفيلق الإفريقي الروسي” على حساب الغربيين، وتحديداً الفرنسيين منهم.
إقرأ أيضاً: بوتين يكرّم “إسلام” في موسكو؟!
طبعاً، من اتّخذ القرار بتوجيه طعنة سامّة لموسكو في قلبها، يحسب حساب خطوته التالية التي قد تكون أشدّ سمّاً من الأولى. فهل دخلنا المرحلة الثانية، من حروب القرن الحادي والعشرين، التي تبدو طلائعها في غزّة وأوكرانيا والسودان وسوريا وليبيا واليمن أشدّ فتكاً من حروب القرن الماضي؟