في عام 2002 تقدّمت المملكة العربية السعودية بمشروع حلّ للقضية الفلسطينية سيكون له انعكاس ايجابي على وضع منطقة الشرق الأوسط ككلّ. حملت المبادرة يومها اسم “الملك عبد الله بن عبد العزيز”. وطُرحت في القمّة العربية في بيروت. وبات اسمها “المبادرة العربيّة للسلام” من بيروت.
كان مشروع “المبادرة العربيّة للسلام” من بيروت مبنيّاً على رؤية سياسية بعيدة المدى والأفق. تطرح فيها المملكة العربية السعودية تصوّرها لمنطقة هادئة ومستقرّة وذات طموحات اقتصادية. كانت لهذا المشروع اتّجاهات متعدّدة، أبرزها دور رفيق الحريري في لبنان، وهو صاحب الرؤية الاقتصادية والسياسية على قاعدة التكامل العربي والانفتاح. ووجود محمد خاتمي على رأس الجمهورية الإيرانية في ظلّ علاقة جيّدة لا بل ممتازة مع المملكة العربية السعودية. بالإضافة إلى رعاية السعودية لعملية توريث الحكم في سوريا من حافظ الأسد إلى ابنه بشار. وتذكر الكتب والمراجع والمذكّرات أنّ حافظ الأسد كان قد أوصى الملك عبد الله بن عبد العزيز الاعتناء ببشّار والحفاظ على عروبة سوريا. وفي تلك الفترة كانت علاقات السعودية جيّدة مع غالبية الدول العربية، وخصوصاً مع مصر أيام الرئيس حسني مبارك.
قُدّم المشروع في تلك الفترة على قاعدة أنّ المدخل لمعالجة كلّ أزمات المنطقة هو حلّ عادل للقضية الفلسطينية ومنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة في بناء دولة مستقلّة عاصمتها القدس. وعبّر ذلك عن رؤيويّة سعودية تتجاوز مسألة الاستقرار الذي كان قائماً في عدد من دول المنطقة. وكأنّ هناك ما يسمح بالتغاضي عن حقوق الفلسطينيين. لا سيما أنّ اقتراح حلّ الدولتين جاء بعد الانتفاضة الثانية للفلسطينيين.
قبل عملية “طوفان الأقصى”، كانت هناك محاولات حثيثة لإنتاج معادلة الدمج الأميركية لإسرائيل في المنطقة. من خلال مشاريع التطبيع والاتفاقات. وهذا مشروع عُرض على دول كثيرة مقابل مغريات وفيرة. بقي الموقف السعودي على تصلّبه في مسألة حلّ الدولتين والإقرار بإنشاء الدولة الفلسطينية.
كان مشروع “المبادرة العربيّة للسلام” مبنيّاً على رؤية سياسية بعيدة المدى. تطرح فيها السعودية تصوّرها لمنطقة هادئة ومستقرّة
“طوفان الأقصى” أعاد فلسطين إلى الطاولة
جاءت عملية طوفان الأقصى لتطيح بكلّ محاولات التغاضي عن حقّ الفلسطينيين ببناء دولتهم. فتمسّكت السعودية أكثر بمطلبها الذي يستند إلى “المبادرة العربيّة للسلام” من بيروت. أتى ذلك بعد سنوات من الانهيار المديد الذي عايشه العالم العربي منذ اجتياح العراق، واغتيال ياسر عرفات، واغتيال رفيق الحريري… وصولاً الى ثورات الربيع العربي التي تمّ تحويلها إلى صراعات مفتوحة لا تنتهي من الاقتتال والاحتراب الأهليَّين على أسس طائفية ومذهبية. وعلى وقع صراع خليجي إيراني بعيد المدى بلغ ذروته.
أسهمت كلّ هذه التطوّرات في تغير سلّم الأولويّات لدى السعودية. التي تفرّغت للاهتمام بالدفاع عن أمنها القومي. من التدخّل في البحرين للحفاظ على النظام. إلى مساندة مصر في مواجهة المدّ الإخواني. وصولاً إلى حرب اليمن. تقدّمت هذه الأولويّات على الاهتمام السعودي بالمشرق العربي، وخصوصاً بالأوضاع في لبنان، سوريا، فلسطين، والعراق.
عملت السعودية على تثبيت وقائع الاستقرار السياسي والأمنيّ في مصر والبحرين. وخاضت حرباً في اليمن فتحت الطريق فيما بعد إلى مفاوضات للبحث عن اتفاق شامل لوقف إطلاق النار وتعزيزه باتّفاق سياسي. وجاء ذلك بالتزامن مع التقارب الإيراني السعودي الذي يمكنه أن يعيد إنتاج تعاون مشترك للبحث عن حلول في منطقة الشرق الأوسط، على قاعدة خفض التوتّر ومنع التصعيد والبحث عن حلول سياسية. وما يحتّم ذلك أكثر هو الحرب الإسرائيلية على غزة، وضرورة البحث عن رؤية متكاملة لحلّ الصراع من جذوره.
جاءت عملية طوفان الأقصى لتطيح بكلّ محاولات التغاضي عن حقّ الفلسطينيين ببناء دولتهم. فتمسّكت السعودية أكثر بمطلبها الذي يستند إلى “المبادرة العربيّة للسلام”
هل وافقت إيران على “المبادرة”؟
هنا لا بدّ من الإشارة إلى جملة نقاط قد تقرّبنا من “المبادرة العربيّة للسلام” الصادرة من بيروت قبل 22 عاماً:
– أوّلاً، مشاركة إيران في القمّة العربية الإسلامية المشتركة في المملكة العربية السعودية والموافقة على المقرّرات التي تنصّ على حلّ الدولتين.
– ثانياً، أوجه الشبه في التقارب الإيراني السعودي حاليّاً مع مرحلة “عبد الله – خاتمي”. التي يمكن لها أن تنعكس إيجاباً على ساحات متعدّدة في المنطقة.
– ثالثاً، رفض السعودية ودول الخليج الأخرى إعادة إحياء التوتّر والحروب في اليمن. ورفضها استخدام الأراضي أو الأجواء السعودية لتوجيه ضربات للحوثيين.
– رابعاً، وجود نظرة سعودية ثابتة ترى أنّ أيّ حلّ لأزمات المنطقة ينطلق من فلسطين. ومن الوصول إلى حلّ عادل للقضية الفلسطينية.
– خامساً، العمل السعودي المتركّز عربياً ودولياً على تقديم صيغة حلّ طويل الأمد للقضية الفلسطينية. لا يركّز فقط على هدنة إنسانية أو وقف اطلاق النار في غزة. وهذا عمل لا يزال مستمرّاً بجهد وانكباب بعيداً عن التداول الإعلامي.
– سادساً، الاهتمام المتزامن في دول متعدّدة. وهذا يرتبط بما يحكى في بعض الكواليس عن عمل السعودية على إعادة إنتاج القيادة الفلسطينية. وإدخال عناصر جديدة إليها. وتجديد شبابها لمواكبة المرحلة المقبلة. وإعادة إنتاج وحدة في الموقف الفلسطيني تجتمع على المطالبة بإنشاء الدولة. والقدرة على تحقيق ذلك وإثبات فعّالية السلطة الفلسطينية.
الحلّ السياسيّ في سوريا
– سابعاً، الاستعداد السعودي للعمل على جمع النظام السوري وقوى المعارضة على حوارات جدّية في الرياض أو جدّة. لمناقشة العمل على إنتاج دستور جديد. وبالتالي تكون هذه الاجتماعات بديلة عن آستانة التي تضمّ روسيا، إيران وتركيا. وبديلة عن اجتماعات جنيف التي لم تؤدِّ إلى أيّ نتيجة جدّية. على الرغم من استمرار اللقاءات على مدى سنوات.
المشاريع التي تعبّر عن رؤية طموحة للمستقبل، قد تعترضها عثرات كثيرة. خصوصاً في ظلّ الوقائع العربية الانقسامية
يتمّ تعزيز هذه المساعي السعودية بالضغط على النظام والتفاوض معه حول وجوب تقديم تنازلات وإجراء إصلاحات سياسية وتكريس التوازن في المعادلة السياسية. بالإضافة إلى موازنة العلاقة مع الدول العربية، من خلال تقليص النفوذ الإيراني ووجود الميليشيات.
– ثامناً، تشكّل الرؤية السعودية، التي على أساسها تتمّ إعادة جدولة سلّم الأولويات، مدخلاً أساسيّاً. من فلسطين وسوريا وترتيب العلاقة مع إيران. إلى لبنان، الذي سيكون العمل على الاهتمام به مسك ختام الجدول في إطار تقديم رؤية سياسية عربية شاملة.
لا تنفصل هذه النقاط، وأساسها “المبادرة العربيّة للسلام” الصادرة من بيروت، عن سعي سعوديّ لتقديم مشروع جديد يتعلّق بإصلاح شامل لجامعة الدول العربية. الهدف منه إعادة تنشيط عمل الجامعة وإخراج آليّاتها من النمط البيروقراطي غير المنتج وغير الفعّال في اتّخاذ القرارات وتطبيقها.
إقرأ أيضاَ: بيروت غرفة عمليات محور الممانعة؟(2/2)
كلّ هذه المشاريع والطموحات التي تعبّر عن رؤية طموحة للمستقبل، قد تعترضها عثرات كثيرة وصعوبات أكثر. خصوصاً في ظلّ الوقائع العربية الانقسامية وبسبب الظروف الإقليمية والدولية. لكن من الواضح أنّ هناك إصراراً على التمسّك بالمبدأ على حساب التنازلات أو المساومات عليه. خصوصاً أنّ الطموح السعودي في إرساء الاستقرار لتحقيق رؤية 2030 وما بعدها سياسياً واقتصادياً، لا يمكن له أن ينجح إلا من خلال خلق ظروف مؤاتية للاستقرار في الدول المحيطة. لأنّه لا يمكن لهذا المشروع أن يتقدّم في ظلّ دول منهارة في المحيط وينعدم الاستقرار فيها.