برز في الهجوم الإرهابي على قاعة “كروكوس سيتي هول” في العاصمة الروسية موسكو إسلامان مختلفان حدّ التناقض. تنظيم يتبنّى القتل والرصاص والدمار، وفتى لم يتجاوز 15 سنةً من عمره، اسمه إسلام باختياروفيتش خليلوف، ينقذ ويقود إلى سبيل النجاة.
إسلامٌ يقتل ويصيب عشرات الأشخاص، وإسلام ينقذ عشرات الأشخاص في قاعة “كروكوس سيتي هول” في العاصمة الروسية موسكو. في المكان عينه. وهو أبعد ما يكون عن موئل الدعوة الإسلامية ومهبط الوحي. “إسلامٌ” يمسكه أهل التطرّف والدم. وإسلام باختياروفيتش خليلوف.
ما سبق ليس لغزاً، بل هو اختصار لواقعة حدثت قبل أيام، وضجّت بها وسائل الإعلام العالمية.
إسلامان لا يلتقيان
الزمان يوم الجمعة الماضي. المكان قاعة “كروكوس سيتي هول” في منطقة كراسنوغورسك الواقعة في ضواحي العاصمة الروسية موسكو.
أمّا الإسلام الأوّل، فتنظيم هو الأشهر عالمياً. تنظيم الدولة الإسلامية المعروف اختصاراً بـ”داعش”. وهو تنظيم مسلّح يتبنّى الفكر السلفي الجهادي، تعود جذوره إلى “جماعة التوحيد والجهاد”. التي أسّسها أبو مصعب الزرقاوي، الأردني، في العراق عام 2004 إثر الاحتلال الأميركي لأراضيه.
يتبنّى تنظيم الدولة الإسلامية عموماً الرؤية الفكرية لتنظيم القاعدة. الداعية إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية وتطبيق أحكام الإسلام عبر “المفاصلة الجهادية” مع الأنظمة القائمة في بلاد الإسلام وداعميها وحلفائها الغربيين.
يضمّ التنظيم في صفوفه آلاف المقاتلين من مختلف الجنسيات. استطاع في 29 حزيران 2014، تأسيس دولة “الخلافة الإسلامية” على أراضٍ واسعة سيطر عليها في العراق وسوريا. اشتهر التنظيم بتنفيذ مئات العمليات “الجهادية” في شتّى أنحاء العالم. مارس خلالها أبشع أنواع القتل والإجرام. حتى صُنّف عالمياً منظّمةً إرهابيةً.
أخيراً، تبنّى هذا التنظيم الهجوم الإرهابي على قاعة “كروكوس سيتي هول”. الذي أسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن 143 شخصاً وإصابة نحو 150 آخرين. لم تُعرف الدوافع بعد. لكنّها ليست بعيدة عن سياق الصراعات العالمية. ومن المؤكّد أن لا علاقة لها بالحرب الإسرائيلية الوحشيّة على غزة المستمرّة منذ ستّة أشهر. هي في سياق آخر مختلف تماماً، يتعلّق بحسابات مختلفة وبصراعات عالمية الثابت الوحيد أنّ لروسيا علاقةً بها.
برز في الهجوم الإرهابي على قاعة “كروكوس سيتي هول” في العاصمة الروسية موسكو إسلامان مختلفان حدّ التناقض
إسلامٌ ثانٍ مُسلم
أمّا إسلام الثاني، ففتى روسيّ مسلم يبلغ من العمر 15 سنةً. اسمه إسلام باختياروفيتش خليلوف. استطاع ساعة هجوم داعش الإرهابي على قاعة “كروكوس” في موسكو، مساعدة قرابة 100 شخص على الهروب من القاعة. عبر توجيههم بكيفية إخلاء المكان.
فتح إسلام باختياروفيتش خليلوف أبواب مخرج الطوارئ لهم فور بدء إطلاق النار. وقد انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم فيديو له وهو يرشد الناس ليخرجوا من المبنى. وقد أثنى روّاد العالم الافتراضي على شجاعته وذكائه وسرعة البديهة التي يتمتّع بها ونمّ عنها تصرّفه.
“البطل الحقيقي” كما وصفته وكالة سبوتنيك الروسية عبر صفحتها على منصّة “إكس” (تويتر سابقاً)، طالبٌ في الصف الثامن المتوسّط. يعمل بدوام جزئي مساعداً في قاعة الحفلات الموسيقية. وتحديداً في قسم تسليم المعاطف في الطابق الأرضي من المبنى. وعندما بدأ إطلاق النار سارع إلى مساعدة الناس وإخراجهم من القاعة عبر مخرج للطوارئ.
أمّا هو، أي إسلام، فلم يفعل أكثر من اتّباعه جميع التعليمات التي أُعطيت له من قبل المعنيّين. كما صرّح في أكثر من حديث إلى وسائل الإعلام في موسكو. في أحد الحوارات معه على قناة “روسيا اليوم”، ردّد جملةً صارت أثيرةً: “أن تموت في المعركة خير من أن تترك الآخرين يموتون”.
صورتان لدين واحد
الإسلام دين سماوي. هو ثالث الأديان السماوية الثلاثة بعد اليهودية والمسيحية. دعوة إلى الخير والحقّ والصلاح. شأنه في ذلك شأن الأديان كلّها. لكنّه أخيراً، وتحديداً منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، صار في الغرب مرادفاً للإرهاب والقتل. بسبب العمليات “الجهادية” الوحشية المصوّرة وغير المصوّرة التي تبنّاها بعض المنتسبين إليه، أفراداً وجماعات وتنظيمات مسلّحة ودعاةً يجتهدون على هواهم ودون حسيب أو رقيب. حتى صار الإسلام إسلامات: إسلام سياسي وإسلام اجتماعي… وإسلام “جهادي”.
بالأمس في روسيا رأى العالم كلّه إسلامَين: إسلام يطلق الرصاص ويقتل العشرات، وإسلام باختياروفيتش خليلوف يفتح أبواب النجاة وينقذ العشرات
الأخير هو الأخطر، فهو المسؤول الأوّل والأخير عن تشويه صورة الإسلام في بلاد المسلمين، قبل تشويهها عالمياً وفي البلاد غير الإسلامية. صار الإسلام في عيون الغرب والعالم مجرّد ملثّمين مدجّجين بأحدث أنواع الأسلحة. ينزلون بالناس قتلاً وذبحاً وتشريداً ويحكمون على كلّ مختلف عنهم بأحكام ما أنزل الله بها من سلطان. ودائماً باسم “تطبيق الشريعة”.
للصورة المشوّهة عن الإسلام في الغرب جذور قديمة في كتابات المستشرقين. وقبلها في كتابات بعض الرحّالة الذين احتكّوا ببعض المسلمين. لكنّها صورة أكّدها “الإسلام الجهادي” ولا يزال منذ عقود. بينما، على العكس تماماً من الأخير، استطاع إسلام باختياروفيتش خليلوف، الفتى المسلم البسيط في موسكو، بفطرته الإنسانية وأخلاقه الإسلامية، أن يقدّم نموذجاً مختلفاً تماماً. بل مناقض للنموذج الأوّل. وفي المكان عينه والزمان نفسه.
ما فعله إسلام يعيد إلى الأذهان مقولة رائد من روّاد التنوير والإسلام المعتدل والعقلاني الإمام الشيخ محمد عبده قالها يوم وطئت قدماه الغرب: “رأيت في أوروبا إسلاماً ولم أرَ مسلمين، ورأيت في بلادي مسلمين ولم أرَ إسلاماً”.
بالأمس في روسيا رأى العالم كلّه إسلامَين: إسلام يطلق الرصاص ويقتل العشرات، وإسلام باختياروفيتش خليلوف يفتح أبواب النجاة وينقذ العشرات. لذلك قرّر الرئيس الروسي منحه وساماً وطنياً.
إقرأ أيضاً: اعتداء موسكو.. المعارضة الشيشانية المتّهم الأول
أيّ الإسلامين سينتصر في النهاية؟ وهل الإسلام الثاني، إسلام الفتى إسلام، يجبّ الإسلام الأوّل، إسلام داعش وأخواتها؟ ومتى؟
لمتابعة الكاتب على X: