يعتقد خبراء السياسة الداخلية في أميركا أنّ مجاهرة أركان الحزب الديمقراطي بالخلاف مع إسرائيل، حول اقتحام رفح والمساعدات الإنسانية، ليست مسرحيّة. بل هي أمر جديّ، لأنّ الحرب على غزّة أنتجت انقساماً داخل الحزب. ينذر بخسارته الانتخابات الرئاسية. ويعتبر أقطاب الحزب الحاكم أنّ فوز دونالد ترامب سيقوّض مستقبل الدولة العظمى، ووقف الحرب صار حيويّاً لهذا المستقبل.
في أميركا حديث عن توجّهين حتى داخل إدارة الرئيس جو بايدن، وداخل الحزب الديمقراطي استطراداً، حيال غزّة. الرئيس إلى جانب وقف الحرب، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن أكثر مسايرة لإسرائيل. ويضطرّ الأوّل جرّاء تردّده أحياناً إلى الأخذ برأي الثاني.
الديمقراطيّون وانقسام المقسّم
أنتجت الحرب انقساماً داخل الكونغرس ومجلس الشيوخ:
- بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. حيث زايد ترامب على بايدن في دعم إسرائيل. على الرغم من نفوذ اللوبي الإسرائيلي داخل الحزب الحاكم.
- الأهمّ داخل كتلة الحزب الديمقراطي نفسه. بين جناح القدامى والتقليديين المتأثّرين باللوبي الإسرائيلي، وجناح وقف ضدّ فظاعات الدولة العبرية في غزة. وهو يضمّ خليطاً من الليبراليين التقليديين واليسار والشباب.
- اللافت أكثر هو الانقسام حتى في قلب الجناح الداعي إلى تغيير السياسة الأميركية حيال القيادة الإسرائيلية. الديمقراطيون الليبراليون التقليديون والمحافظون مع ممارسة ضغوط على حكومة نتنياهو. ويدعون إلى انتخابات تنتج قيادة جديدة في تل أبيب. وعلى رأسهم زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر. وهم مع التركيز على حلّ الدولتين. إلّا أنّهم في الأساس، مثل بايدن، يدعمون هدف إسرائيل تفكيك بنية “حماس” العسكرية.
- مقابل هؤلاء يعلو في صفوف المعترضين صوت تيار الشباب واليسار والناشطين السود، الذي يتّهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ويدعو إلى محاسبتها على هذا الأساس.
الديمقراطيّون: بفوز ترامب مستقبل أميركا على المحكّ
انقسامات الديمقراطيين ستُسقط بايدن في الانتخابات الرئاسية. خصوصاً مع نشوء موجة “غير الملتزمين” (uncommited) بالتصويت له. والسبب أنّه غطّى الحرب وأحبط وقف إطلاق النار في مجلس الأمن أكثر من مرّة.
يعتقد خبراء السياسة الداخلية في أميركا أنّ مجاهرة أركان الحزب الديمقراطي بالخلاف مع إسرائيل، حول اقتحام رفح والمساعدات الإنسانية، ليست مسرحيّة
تشكّل أصوات هؤلاء ثقلاً مرجّحاً نتيجة تلاقي معظم العرب والمسلمين الأميركيين مع اليسار التقدّمي والشباب. ظهرت عيّنة منهم في ولاية ميشيغان. استطاعوا جمع زهاء 100 ألف توقيع تحت هذا الشعار. أقلق هذا الانكفاء الأقطاب الديمقراطيين المخضرمين المعارضين لصدّ نتنياهو طلبات بايدن. هؤلاء شبه مذعورين. لأنّ فوز دونالد ترامب في الانتخابات سيحوّل أميركا إلى دولة معزولة دوليّاً. وسيضعف قيادتها العالمية في صراعها مع الصين. فترامب زايد على بايدن لكسب أصوات يهودية. وموقفه أقرب إلى اليمين الإسرائيلي المتطرّف الداعي إلى “الترانسفير”. أي طرد فلسطينيّي غزّة إلى مصر، وفلسطينيّي الضفّة الغربية إلى الأردن.
من هذا التيار الديمقراطي ظهر قبل أسبوع موقف زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، اليهودي تشاك شومر، الشهير. اعتبر أنّ نتنياهو “ضلّ الطريق” ودعا إلى انتخابات في إسرائيل لتغييره. وفيما قيل إنّ بايدن شجّعه على هذا الموقف، فإنّ من خلفيّاته استيعاب موجة اليساريين والشباب المتشدّدين التي تهدّد وضعه الانتخابي.
إنّها من المرّات النادرة التي تلعب السياسة الخارجية دوراً في الانتخابات الرئاسية. فلطالما تأثّر خيار الناخب الأميركي بالاقتصاد، وأسعار السلع ومستوى البطالة. فتأثير موقف المرشّحين من الأزمات العالمية معيار كان شبه معدوم في تاريخ الانتخابات الرئاسية الحديث.
تشدّد فان هولن مع بايدن
إضافة إلى شومر في جناح أعضاء الحزب الديمقراطي، المنتقدين لإسرائيل، قاد عضو مجلس الشيوخ المخضرم كريس فان هولن “تمرّداً جدّياً” على بايدن. هكذا وصفته مجلة “بوليتيكو”. لأنّه صاحب التعديل القانوني الذي يشترط فتح إسرائيل ممرّات المساعدات الإنسانية لغزّة مقابل مساعدة إسرائيل بالسلاح. وتحوّل هذا التعديل إلى مذكّرة صادرة عن مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض لمتابعة تنفيذه.
قال فان هولن لـ”بوليتيكو” الأسبوع الماضي إنّه لم يلمس بعد جهداً كافياً من بايدن لتطبيق ذلك التعديل. ورأى أنّ “الإدارة منقسمة من داخلها حول كيفية التشدّد مع نتنياهو. وبعض الإدارة يتجاهل متطلّبات أن تكون تأكيدات إسرائيل السماح بدخول المساعدات الإنسانية موثوقة وذات صدقية. وعلى إدارة بايدن إثبات جدّيّتها بالمحاسبة نتيجة أقوال الرئيس”.
في أميركا حديث عن توجّهين حتى داخل إدارة الرئيس جو بايدن، وداخل الحزب الديمقراطي استطراداً، حيال غزّة
يرصد المراقبون طبيعة موقف الإدارة من طلبات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت التسليحيّة. فهو في واشنطن لهذا الغرض منذ أيّام. ويطالب أيضاً بتوسيع الحرب ضدّ لبنان.
رسالة 19 سيناتوراً للرئيس: لدولة منزوعة السلاح
نشوء جبهة عريضة في الحزب الديمقراطي ضدّ الحرب، جعلت فان هولن يتصدّر حالة “لم نعد قادرين على تحمّل دعم إسرائيل”. لذلك كان وراء توجيه رسالة إلى بايدن وقّعها 19 من أعضاء مجلس الشيوخ نُشرت في 20 آذار. من بين هؤلاء أعضاء بارزون في كتلة الديمقراطيين أمثال طوماس كاربر، إليزابيت وارن، كريستوفر مورفي، جين شاهين، ريتشارد دربين.
راعت الرسالة بعض طلبات لإسرائيل، وعرضت المراحل الماضية لدور أميركا في تسهيل التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي. وعدّدت ما قام به الرؤساء من الحزبين، جورج بوش الأب، بيل كلينتون وجورج دبليو بوش. جاء ذلك في معرض تأكيد “الحاجة إلى قيادة أميركية تتحرّك بما يتعدّى دور التسهيل”. ودعوا بايدن إلى أن يضع الخطوط العريضة “لمسار الاعتراف بقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح”.
الإصلاحات الفلسطينيّة
حدّد هؤلاء الموقّعون، في “إطار برنامج”، المطلوب من الجانبين:
– الإصلاحات الهيكلية والحكومية في الجانب الفلسطيني لأجل الديمقراطية والحوكمة:
- في النظام التربوي.
- في النظامين القضائي والأمنيّ.
- في برنامج الإنفاق على السجناء.
- جهود محاربة الفساد والتحريض على العنف.
– يطلب من الحكومة الإصلاحية بصفتها تحكم غزة والضفة الغربية (تجنّبوا ذكر القدس) أن تعيد تأكيد الاعتراف بدولة إسرائيل.
– تفويض من السلطة الفلسطينية إلى الوزراء وكبار الموظّفين بالتزام اللاعنف، وقبول مبدأ حلّ الدولتين ونبذ “حماس” والمجموعات الإرهابية.
يرصد المراقبون طبيعة موقف الإدارة من طلبات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت التسليحيّة. فهو في واشنطن لهذا الغرض منذ أيّام
الإجراءات الإسرائيليّة المطلوبة
شدّدت الرسالة في الجانب الإسرائيليّ منها على أنّه “بإنجاح المبادرات المذكورة، وحده، وبدعم إقليمي لحلّ الدولتين، يمكن لدولة إسرائيل أن تعيش بأمن وبلا خوف”. لكن “نعترف (الأعضاء الـ19) بأنّ لإنجاز هذا الإطار، على حكومة إسرئيل أن تتّخذ خطوات موازية تبدأ بتدفّق كبير للمساعدات الإنسانية إلى غزة وبتمكين إعادة إعمار القطاع. وفي وقت خيّب نتنياهو ظنّنا برفضه الانخراط بمسار قيام دولة فلسطينية، فهذا سبب إضافي كي تدفع إدارة بايدن حكومة إسرائيل نحو الخطوات التالية:
- إجراءات فعليّة ضدّ عنف المستوطنين في الضفة الغربية.
- وقف هدم المنازل وإخراج الفلسطينيين من ممتلكاتهم.
- وقف مخطّطات الاستيطان والبناء في الضفة الغربية.
- الإفراج عن عائدات الجمارك للسلطة الفلسطينية.
- إعادة العمل برخص العمل لعمّال الضفة الغربية كي يدخلوا إسرائيل”.
يمتدّ انقسام الحزب الديمقراطي في أميركا إلى مجلس النواب. حيث لتيار الشباب واليسار والناشطين السود تأثير أكبر على نواب من الجيل الجديد
أقرّت الرسالة بأنّ أيّاً من كلّ ذلك لا يتحقّق قبل وقف النار والإفراج عن جميع الرهائن. وشكرت إدارة بايدن (الحزب الديمقراطي) على ما قامت به “ونطالبك بأكثر منه”. وركّزت على أهميّة أن تقود أميركا مبادرة سلام نتيجتها اعتراف الولايات المتحدة بدولة منزوعة السلاح. وأشارت إلى محدودية النجاح في تحقيق هذه السياسة منذ عقود.
حليفتنا إسرائيل… وتهمة الإبادة الجماعيّة
اعتبر الأعضاء التسعة عشر أنّ الأزمة بلغت “نقطة تحوّل. وبطرح خريطة طريق لاعتراف الولايات المتحدة بالدولة الفلسطينية تكون أرست مساراً لحلّ الدولتين عبر الدبلوماسية. وأنت الوحيد في موقع قيادة حلّ الدولتين ليس لمصلحة الفلسطينيين فحسب، بل ولمصلحة حليفتنا إسرائيل”.
يمتدّ انقسام الحزب الديمقراطي في أميركا إلى مجلس النواب. حيث لتيار الشباب واليسار والناشطين السود تأثير أكبر على نواب من الجيل الجديد. من هذا التيار ظهر من يجرؤ على بايدن ويتّهمه بـ”الإبادة الجماعية” للفلسطينيين. وبرز فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يصرخ فيه أحدهم في وجه الرئيس بتجمّع حزبي: “جو أنت تسبّب الإبادة الجماعية”.
إقرأ أيضاً: هل تنجح السداسية العربية في ترجمة الوعود الأميركيّة بالدولتين؟
بلغ دور هذا التيار اليساري حدّ اتّهام النائبة عن نيويورك، ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، المعارضة بشدّة لحرب إسرائيل ضدّ غزة، بالتلكّؤ عن اتّهام إسرائيل بالإبادة الجماعية. اضطرها ذلك بعد يومين إلى وصم إسرائيل بأنّها تمارس “الإبادة”.
لمتابعة الكاتب على X: