اغتيل عماد مغنية، واغتيل قاسم سليماني، وبقي حسن نصر الله بعدما أثبت كفاءة في حماية نظام بشار الأسد من الحرب السوريّة المعقّدة. أهمّ نصائح سليماني للمرشد الأعلى التي اعتمدها هي “تلزيم حسن نصرالله ملفّات محور الممانعة في المنطقة”. وهذا يعني أنّ التجنيد، والتدريب، والتسليح، والمتابعة لوكلاء إيران في صنعاء ودمشق وبغداد وغزة تتمّ بإشراف الحزب وإدارة حسن نصر الله.
لم يكن غريباً بعد كلّ الوقائع المذكورة داخل محور الممانعة أن تصبح بيروت المركز الدعائي السياسي الأوّل لحركة الحوثي. ولم يعد غريباً أن ينتشر خبراء الحزب العسكريون في صنعاء مع الحوثي، وفي بغداد ودمشق مع الحشد الشعبي وكتائب “فاطميون” و”زينبيّون”.
نال الأمين العام للحزب إعجاب وتقدير خامنئي حينما دحرت قوات الحزب فلول داعش في جرود عرسال. واستطاعت سياسياً أن تكون صاحبة اليد العليا في تسمية أو تعطيل أيّ قرار سیاسي مفصليّ في لبنان.
“فائض القوّة” هذا دخل مرحلة صعبة عندما دخلت إيران مرحلة “تفاهم سرّي” بينها وبين إدارة بايدن تمّ التوصّل إليه خلال جولات حوار في مسقط.
كان الاتفاق الذي توقّف في كانون الثاني الماضي يعطي الولايات المتحدة فترة سماح يتمّ بعدها إنجاز الاتفاق النووي عقب حسم معركة الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني المقبل.
ثلاثة متغيّرات صاعقة
بالمقابل كان التفاهم يعني تخفيف العقوبات الأميركية على إيران. فتمّت صفقة الإفراج عن دفعات من الأموال المحجوزة، وغضّ الأميركي النظر عن مبيعات البترول والغاز الإيرانيَّين المخالفة للعقوبات المفروضة.
تزامن ذلك مع 3 متغيّرات:
1- إنجاز السعودية اتفاق بكين مع إيران برعاية صينية فى آذار الماضي.
2- مواجهة إدارة بايدن صعوبات متزايدة في تحرير مشروعات الموازنة داخل الكونغرس.
3- اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الأول وما نتج عنها من آثار إقليمية، وأهمّها: تعطيل أيّ تقارب دبلوماسي بين السعودية وإسرائيل، وانقسام المنطقة بسبب وحشية وجنون حكومة نتنياهو إلى قسمين: “مع” و”ضدّ” إسرائيل والولايات المتحدة.
لم يكن غريباً بعد كلّ الوقائع المذكورة داخل محور الممانعة أن تصبح بيروت المركز الدعائي السياسي الأوّل لحركة الحوثي
خلق هذا كلّه حالة شديدة الضغط والصعوبة اللوجستية والنفسية على الحزب ونصر الله شخصياً، فوضعتهما بين نارين:
– النار الأولى: عدم استطاعة الحزب الذي يقود محور الممانعة في المنطقة تحت شعار مقاومة إسرائيل أن يقف مكتوف اليدين أمام حرب الإبادة التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة.
– النار الثانية: ضرورة الالتزام بقواعد الاشتباك وعدم توسيع مسار القتال كما جاء في التفاهم الأميركي الإيراني.
يريد نصر الله الحرب، لكنّه لا يقدر على قرارها، ويريد عدم تعريض مصالح طهران للخطر. لكن شعبياً كانت صيغة التصعيد الإعلامي والقتال داخل قواعد الاشتباك معادلة لا تخلو من خطر الانزلاق إلى حرب محدودة غير مأمونة الجانب في ظلّ حكومة نتنياهو التي تغريها فكرة أن يكون جنوب لبنان هو المحطة القتالية التالية بعد معركة رفح وتحرير الرهائن.
فى جميع الأحوال، تأتي هذه الأحداث لتجعل من نصر الله والحزب مركز تأثير رئيساً في أمن المنطقة. صواريخ الحزب هي التي تمّ توريدها وتدريب الحوثي عليها في عمليات تعطيل التجارة والملاحة في البحر الأحمر، وهي التي تنطلق ضدّ مستعمرات الشمال. وهو ما أدّى إلى تهجير 80 ألف مستوطن إسرائیلي. ومخازن سلاح الحزب في سوريا والبقاع وصيدا هي الشغل الشاغل لعمليات السلاح الجوّي الإسرائيلي. كلّ هذه الأحداث وضعت الرجل في مركز تأثير مهمّ.
على خلاف ما يتوقّع خصوم محور الممانعة وأعداء إيران والحزب فإنّ واقع الحال وتوازنات القوى. سواء أحببنا أو كرهنا، أيّدنا أو عارضنا. تفرض دوراً قريباً و مؤثّراً للرجل والحزب في أيّ تسوية إقليمية بعد أن تسكت المدافع.
ما هي دلائل هذا التصوّر؟
1- علاقة الحزب بإيران. أي ما يمكن تسميته بالحليف الأساس والحليف الثانوي أو بالمصدر الرئيس والصديق أو “المشغّل” و”الوكيل” كما يطلق أعداء الحزب عليه.
بصرف النظر عن التسمية، العلاقة بينهما عضوية حديدية لا يمكن فيها فصل إرادة طهران عن إرادة الحزب. إنّه التناغم الكامل حتى لو اختلفت الرؤى والمصالح.
عدم استطاعة الحزب الذي يقود محور الممانعة في المنطقة أن يقف مكتوف اليدين أمام حرب الإبادة التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة
هنا منطقيّاً إذا كانت إيران تدخل بقوّة في علاقة تصفير مشاكل مع دول الخليج العربي فلا بدّ لذلك، طال الزمان أو قصر. أن تكون له آثاره الإيجابية على حرب اليمن، وعلى الأزمة في لبنان، وعلى التهدئة في العراق وسوريا. طهران مستعدّة للمقايضة. لكن بانتظار الثمن الإقليمي المناسب من الرؤية السياسية والاستراتيجية التي تتّبعها.
إذاً لا يمكن للمصدر أن يتصالح إقليمياً دون أن يكون للحزب نفس نصيب المصالحة حتى لو كان دوره الحالي هو الضغط للحصول على أفضل شروط للتسوية.
2- لا يمكن للمنطقة عامّة، ودول الخليج خاصّة، أن تتعامل بلامبالاة مع فائض القوّة الآتي من خلال تأثير الحزب على مراكز صراعات في المنطقة يُضاف إليها أمن البحر الأحمر والبحر المتوسط.
3- المنطقة مقبلة بدءاً من العام المقبل على تنفيذ مشروعات سلاسل الإمداد عبر الطرق البحرية وحرّية استكشاف الغاز. ويلاحظ الاهتمام الإيراني بهذا الملفّ وتفهّم الحزب لهذا الموضوع. وقد ظهر ذلك بشكل واضح في تسهيل الحزب لمهمة المبعوث الأميركي هوكستين في مسألة ترسيم الحدود البحرية.
4- الخبرة المتراكمة التي نمت عند السيد والحزب في التعامل مع الحوثي والحشد الشعبي وحماس والجهاد الإسلامي. هي “كنز استراتيجي” لا يمكن تجاهله عند وصول المنطقة إلى مرحلة “تسوية إقليمية” أو مقايضة نفوذ بين الأطراف الفاعلة فيه. أي الدول العربية الكبرى والدول الإقليمية غير العربية (تركيا، إيران، إسرائیل).
5- من مؤشّرات بدء استخدام العلاقة المتطوّرة خليجياً مع إيران تلك الرحلة التي تمّ ترتيبها لوفيق صفا مسؤول الارتباط في الحزب من بيروت برفقة شخصية أمنيّة إماراتية إلى أبو ظبي للإفراج عن محكومين لبنانيين في الإمارات. وقد تمّ ذلك بمبادرة إماراتية استجابة لطلب سوريا ووساطتها وضمانها.
أهمّ نصائح سليماني للمرشد الأعلى التي اعتمدها هي “تلزيم حسن نصرالله ملفّات محور الممانعة في المنطقة”
لذلك يجب أن لا نتعجّب إذا رأينا وفداً يمثل السيد أو بعض أطيافه في زيارات علنية لعواصم خليجية أو شرقية من أجل تصفير مشاكل لوجستية وصراعات متراكمة تاريخياً بين القوى الشيعية والسنّية في العراق. وبين الحوثي في الشمال والسلطة الرسمية في الجنوب، وبين معضلة الثلث المعطّل في الحكومة اللبنانية واعتراضات دول الخليج.
إقرأ أيضاً: “السيّد” وسيطاً في صراعات المنطقة؟ (1/2)
كلّ ذلك مرتبط بالدرجة الأولى بالإجابة على سؤال عظيم حينما يأتي العام المقبل: من سيكون على رأس الحكم في طهران؟ ومن سيكون بسدّة الرئاسة في واشنطن؟
الحقّ أن “لا صداقات دائمة ولا صراعات دائمة، فقط هناك مصالح دائمة”.
لمتابعة الكاتب على X: