يقول سفراء اللجنة الخماسية المعنيّة بالملفّ اللبناني إنّهم يعملون على رسم ملامح خريطة طريق للخروج من الأزمة اللبنانية. لكن عملياً لا بدّ من رسم خريطة للسفراء وآليّة عملهم وأفكارهم التي تنطوي على اختلافات عديدة فيما بينهم. بمعزل عن اجتماعهم في صورة واحدة. الصورة هنا تجمع الكثير من الحيرة، بين الإقدام والانكفاء، الاكتفاء بالعناوين العريضة والانخراط في تفاصيل التفاصيل. وصولاً إلى البحث في أعداد النواب المضمونة مشاركتهم في دورتين انتخابيّتين. وغيرها من الحسابات التفصيلية التي قد تتحوّل لبنانياً إلى عنصر إعاقة وتأخير لهذا الإقدام، فيخرج تحرّك السفراء بلا نتيجة.
اعتاد لبنان في تاريخه تحرّكات الدبلوماسيين والسفراء، منذ الجنرال سبيرز، الذي ينسب له وللحرب العالمية الثانية فضل الاستقلال. إلى حقب كثيرة من الاقتتال عايشها الشعب اللبناني، من الإطاحة ببشارة الخوري إلى الثورة على كميل شمعون ورفض حلف بغداد. ثمّ التدخّلات العربية والدولية في مرحلة الوحدة المصرية السورية، وما تلاها من عقد لاتفاقية القاهرة في عام 1969، وصولاً إلى المبعوثين الدوليين والعرب والموفدين في فترات الحرب. وكان أبرزهم فيليب حبيب إثر الاجتياح الإسرائيلي، ثمّ الموفد الأميركي ريتشارد مورفي الذي نقل عن حافظ الأسد معادلته الشهيرة: “مخايل الضاهر أو الفوضى”.
حتى ما بعد الحرب وما بعد الخروج السوري من بيروت، لطالما كان لبنان ساحة استقطاب لجهود دولية ودبلوماسية. منذ الدورين البارزين اللذين لعبهما سفيرا أميركا وفرنسا في عام 2005 جيفري فيلتمان وبرنار إيمييه. إلى أدوار أخرى في فترة التوتّر والعنف إثر أحداث 7 أيار التي تداخلت فيها دول كثيرة عربية وأجنبية. ثمّ انتخاب ميشال سليمان الذي احتاج إلى تسوية في الدوحة، وكان اسمه قد جاب عواصم ورافق سفراء ورؤساء أجهزة استخبارات. إلى ما بعد اتفاق الدوحة، واللجنة التركية القطرية التي كانت تواكب وتتابع الاستحقاقات اللبنانية وتعمل في مجال الوساطة بين الأطراف المتصارعة في الداخل.
يقول سفراء اللجنة الخماسية المعنيّة بالملفّ اللبناني إنّهم يعملون على رسم ملامح خريطة طريق للخروج من الأزمة اللبنانية
لم تعد هذه السمة غريبة عن لبنان، لا بل أصبحت جزءاً من التقاليد السياسية. وهو ما يتكرّر اليوم في مجال عمل اللجنة الخماسية، إمّا باجتماعات على مستوى المندوبين في الخارج. أو على مستوى السفراء في الداخل اللبناني الذين وصلوا إلى خيار الجولات على مختلف القيادات السياسية والروحية.
كانت الجولة، وما سبقها من اجتماعات ثلاثة للسفراء، عرضة لتسريبات حول اختلافات فيما بينهم في وجهات النظر والمقاربات. كانت مثل هذه الخلافات ظهرت في ما ينسب للسفراء أو دولهم من خيارات لا تلتقي بعضها مع بعض حول المرشّحين وأسمائهم وشخصيّاتهم ومواصفاتهم. يسهم ذلك في إرباك موقف الخماسية، ولا بدّ من تشخيصه:
1- تظهر مصر من خلال سفيرها في بيروت علاء موسى كمتصدّرة إعلاميّة في اللجنة الخماسية. وهو بخلاف كلّ السفراء المصريين السابقين الذين كانوا مقلّين أو ممتنعين عن الكلام. يتقدّم موسى على غيره من السفراء في كثرة الإطلالات متحدّثاً عن ضرورة وضع خارطة طريق ورسم ملامح ووضع معادلات هندسية. لكن عملياً بدون أيّ تأثير فعليّ في مجريات الأحداث أو تطوّراتها. يحاول إشاعة جوّ إيجابي بالقول الحسن، لكن بلا قدرة تأثيريّة على أيّ طرف داخلي أو خارجي.
تظهر مصر من خلال سفيرها في بيروت علاء موسى كمتصدّرة إعلاميّة في اللجنة الخماسية. وهو بخلاف كلّ السفراء المصريين السابقين
2- فرنسا التي تحاول أن تكون على كلّ الخرائط، من غزة إلى جنوب لبنان إلى الرئاسة. والتي تنسب لنفسها شرف التقدّم بالمبادرة في عام 2020. تجد نفسها غير قادرة على تحقيق أيّ منها، وكلّما تقدّمت بطرح أو فكرة، وجدت من يضع العقبات لها مع اتّهامات ضمنية للأميركيين. تسعى فرنسا إلى وضع نفسها في صلب الأحداث من خلال الورقة المقترحة لمعالجة الوضع في الجنوب والرئاسة. والتي يظهر فيها السفير الفرنسي هيرفي ماغرو وكأنّه يأخذ دوراً توافقياً ومتقارباً إلى حدود بعيدة مع السعودية. فأصبح متماهياً في مواقفه مع مواقف السفير السعودي. وهذا يعود إلى إعادة تكوين المقاربة الفرنسية تجاه لبنان بما يتلاءم مع المسار السعودي. وخصوصاً بعد اعتراف الفرنسيين بأن مقاربتهم السابقة شابتها أخطاء ونقاط ضعف كثيرة، وقد دفع ثمن الكثير منها في لبنان وغير لبنان الثمن بتغيير كل الطاقم.
3- تبدي قطر حماسةً واهتماماً بالملفّ اللبناني، وهي التي كانت قد أنتجت تسوية الدوحة 2008. يمكن لها أن تفكّر بنفس الآليّة وإن كان الاتفاق صناعة أيديها لكن في بيروت هذه المرّة. تتحرّك قطر على أكثر من خطّ: الزيارات المفتوحة للدوحة لمسؤولين لبنانيين. تحرّك السفير القطري، وتحرّك الموفد الأمنيّ جاسم بن فهد آل ثاني. تأتي كلّ هذه التحرّكات على إيقاع حركة قطر بين إيران وأميركا، وحركتها للبحث عن اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة. ينطلق القطريون من علاقات تجمعهم بكلّ القوى المتخاصمة في لبنان وعلى المستوى الإقليمي أو الدولي. تتقدّم قطر بأكبر من طرح حسبما سرّب منذ الحماسة لجوزف عون إلى الانتقال نحو خيار الياس البيسري.
تبدي قطر حماسةً واهتماماً بالملفّ اللبناني، وهي التي كانت قد أنتجت تسوية الدوحة 2008
4- الموقف الأميركي الذي لا يمكن لأيّ طرف لبناني أن يأخذ إشارة واضحة ومباشرة منه. كلّ الأطراف سمعت ما تتمنّاه وتشتهيه من الأميركيين، بين عدم وضع فيتو على أيّ مرشّح، وعدم ممانعة التعاون مع فرنجية في حال انتخابه، إلى التأييد لخيار قائد الجيش. لدى الأميركيين أكثر من مسار ووجهة، وسط معلومات تفيد بأنّ ملفّ الحدود بيد المبعوث آموس هوكستين، وملفّ الرئاسة بيد وزارة الخارجية. فيما تتسرّب معلومات عن رغبة هوكستين بأن يكون له دور يتعلّق بالرئاسة من خلال دمج الملفّات بعضها ببعض. وهو كان قد التقى قبل فترة بمسؤولين فرنسيين وقطريين وناقش معهم كلّ الاستحقاقات اللبنانية. في المقابل، لا يروق للسفيرة الأميركية الجديدة ليزا جونسون حراك اللجنة الخماسية. وتصرّ على أن لا أحد يمثّل الخماسية أو الولايات المتحدة الأميركية ولا أحد يتحدّث باسمها. إضافة إلى تسريبات تتّصل برفض المسار الذي يعتمده المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان.
5- المملكة العربية السعودية التي تتأرجح المواقف حولها بين من يعتبرها مهتمّة ومن يراها لم تعطِ كلمة السرّ ولم تطلق الموقف المباشر لترجيح الكفّة. تكتفي السعودية بوضع معايير وشروط واضحة تعتبرها في مصلحة لبنان إذا تمّ الالتزام بها، على قاعدة الإقلاع عن آليّات العمل القديمة. فالشروط السعودية المرتبطة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، والمعايير التي يجب الالتزام بها وحدها كفيلة بمعالجة الأزمة اللبنانية. وهذا ما يخضع لتفسيرات كثيرة في لبنان، بين من يقول إنّ هذا الموقف يعني عدم اهتمام، وبين من يعتبر أنّه لو كانت السعودية كذلك. لم تكن لتعقد الاجتماعات وتشارك فيها وتصرّ على التزام مقرّرات اجتماع نيويورك الثلاثي قبل أن يتحوّل إلى خماسي.
تشير المعلومات إلى أنّ بن سلمان مقتنع بذلك، لكنّه ينتظر اختيار التوقيت الملائم لتقديم تصوّر شامل حول المنطقة ككلّ
اللحظة الدوليّة لم تحِن بعد
كلّ هذه التفسيرات والاستنتاجات المتضاربة لحركة اللجنة الخماسية تشير إلى خلاصة واحدة. وهي أنّ اللحظة الدولية والإقليمية لمعالجة الوضع اللبناني لم تحِن بعد. فلا بدّ من انتظار تطوّرات الإقليم وتداعياته، وخصوصاً في ظلّ الحرب المستمرّة على غزة. هنا يراهن اللبنانيون على الموقف السعودي أيضاً، وذلك بلسان رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يقول إنّه لا يريد الذهاب إلى اتفاق بدون السعودية. ومثل هذا الموقف يعبّر عن وجهة نظر إيران والحزب أيضاً.
بناء عليه، فإنّ جدّية إنتاج ما تقوم به اللجنة الخماسية لا تزال مؤجّلةً للوصول إلى معادلة من اثنتين:
المعادلة الأولى: حصول تقاطعات أميركية إيرانية سعودية، هي وحدها كفيلة بالوصول إلى تسوية في لبنان والمنطقة ككلّ. وهناك محاولات حثيثة للعمل على ذلك. وبحال حصلت هذه التقاطعات بين الدول الثلاث، فهي حتماً ستتقدّم على غيرها وستصبح الدول الأخرى مضطرّة إلى السير وفق هذا المسار.
المعادلة الثانية: أن تبقى السعودية على حالة عدم الانخراط والتدخّل والاهتمام بالشكل التفصيلي. لكنّ ذلك سيكون متناقضاً مع مشهد الخماسية وحركة السفير السعودي. وحينها يمكن أن تتكرّر تسوية عام 2016 بتقاطعات بين أميركا وإيران هذه المرّة. وتكون دولة قطر التي في نهاية تحركها لا تخرج عن التفاهم مع القيادة السعودية. هي الطرف العربي المنخرط بالنظر إلى حماستها وتحرّكها باتجاه جميع القوى المتناقضة.
السعوديّة تنتظر
تقول المعلومات إنّه في الاجتماع الأخير الذي عقد بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. تمّ البحث في كلّ ملفّات المنطقة، وسعى بلينكن إلى إقناع بن سلمان بضرورة الانخراط بكلّ الوضع في المنطقة، بما فيها لبنان. وتشير المعلومات إلى أنّ بن سلمان مقتنع بذلك، لكنّه ينتظر اختيار التوقيت الملائم لتقديم تصوّر شامل حول المنطقة ككلّ. وهذا ما تسعى إليه السعودية على مستويات متعدّدة: فلسطين، اليمن، العراق سوريا ولبنان. هنا تجدر الملاحظة إلى سعي سعوديّ إلى إعادة إحياء مفهوم الحوار بين النظام السوري والمعارضة السورية.
كانت الجولة، وما سبقها من اجتماعات ثلاثة للسفراء، عرضة لتسريبات حول اختلافات فيما بينهم في وجهات النظر والمقاربات
الأسبوع الفائت، وضمن جولة لها في المنطقة، حطّت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف في الرياض. وهي الموكل إليها الملفّ اللبناني رئاسياً. وهي مندوبة بلادها إلى اللجنة الخماسية. عقدت ليف لقاءً مع المسؤول عن الملفّ اللبناني نزار العلولا، وجرى البحث أيضاً في الرؤية المشتركة للوصول إلى صيغة حلّ في لبنان.
إقرأ أيضاً: جديد الخماسيّة: فصل لبنان عن غزّة… والرئاسة عن الحكومة
الأسبوع المقبل، ستكون الدوحة محطّة لزيارات لبنانية متعدّدة، وسط استمرار تقاطر رسائل اللبنانيين الطالبي الزيارة وتحديد المواعيد. لا بدّ من انتظار هذه الزيارات ونتائجها وما سينعكس منها على الواقع الداخلي. ولا بدّ من انتظار كيفية التعاطي الإقليمي والدولي مع هذا التطوّر لمراقبة هامش الحركة ومدى اتّساعه أو انقباضه.