منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، كان المشهد اليومي لمطار اللد في إسرائيل، وهو يعجّ بالمسافرين الإسرائيليين المغادرين، أحد تجلّيات وتداعيات عملية طوفان الأقصى. التي تسبّبت بهجرة معاكسة لمئات الآلاف منهم. وهي مستمرّة مع استمرار الحرب التي دخلت شهرها السادس، الأمر الذي اعتُبر منذ ذلك الوقت هزيمة ديمغرافية... لكنّ الجديد هو أزمة تجنيد “الحريديم” في الجيش الإسرائيلي. فمن هم؟ ومن أين ولدت هذه الأزمة؟ وما هو دور بنيامين نتانياهو وموقفه؟
هل يجبر رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو “الحريديم” على دخول الجيش في التجنيد الإجباري وفي قوات الاحتياط؟ سؤال بدأ يكبر في إسرائيل، خصوصاً بعد الحرب الأخيرة.
ما دام التفوّق الديمغرافي في فلسطين التاريخية أحد هواجس إسرائيل وأهدافها منذ نشأتها، فإنّ اللعب على وتر الهجرة العكسية يوقظ كوابيسها. وهذا ما فعله الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين في إسرائيل إسحاق يوسف بشأن رفض التجنيد في الجيش. والتهديد بتسفيرهم من إسرائيل في حال إجبارهم على ذلك.
بات ملفّ تجنيد “الحريديم” بمنزلة أزمة متفجّرة على طاولة حكومة إسرائيل. وذلك في ظلّ الخلافات بين الأحزاب التي يرفض بعضها فرض التجنيد ويفضّل التوصّل إلى تسوية بهذا الشأن. وبين المعسكر الرسمي بقيادة غانتس وآيزنكوت الذي يؤيّد فرض التجنيد.
عاد ملفّ تجنيد “الحريديم” في الجيش إلى الأضواء في إسرائيل. وذلك مع قرب انتهاء سريان الأمر الصادر عن الحكومات المتعاقبة بمنحهم الإعفاء من الخدمة العسكرية آخر الشهر الحالي. وقد أمهلت المحكمة العليا حكومة نتنياهو حتى 31 آذار الجاري من أجل التوصّل إلى صيغة تفاهم بشأن تجنيد “الحريديم” وإلزامهم بالخدمة العسكرية. ويصل عدد من يمكن تكليفهم في الوقت الحالي إلى 157 ألف شخص.
يتجلّى الانقسام السياسي بين الأحزاب الكبيرة في نظرتها إلى أحزاب “الحريديم”. فعلى عكس التودّد الذي يظهره لها الليكود وزعيمه نتنياهو
من هم “الحريديم”؟
يشكّل اليهود المتديّنون “الحريديم” نحو 13.3% من عدد السكان في إسرائيل. وهذه النسبة تدلّ على أهمّيتهم وحجمهم، في ظلّ تقديرات لوصول النسبة إلى 16% عام 2030. وهم يتمتّعون بنفوذ سياسي كبير. وتستمدّ الأحزاب الدينية قوّتها من حاجة الساسة الإسرائيليين إليها عند تشكيل الحكومات.
يعيش “الحريديم” وفق الأنظمة والقوانين الوارد ذكرها في التوراة. ويعارضون بشدّة إحداث أيّ تغيير فيها. ويعتقدون أنّ إسرائيل ونظم حياة اليهود يجب أن تسير وفق قوانين وأنظمة الشريعة اليهودية وليس بموجب قوانين حدّدها ونظمها بنو البشر.
يُقسّم “الحريديم” إلى قسمين: الشرقيين (السفارديم) الذين يمثّلهم حزب “شاس”، والمتديّنين الغربيين (الأشكناز) الذين يمثّلهم حزب “يهودية التوراة”. وهما يحظيان بـ18 مقعداً في الكنيست. وقد استعادت هذه الأحزاب قوّتها السياسية مع تشكيل نتنياهو الحكومة الحالية.
تضع أحزاب “الحريديم” استثناء المتديّنين من الخدمة العسكرية على رأس أولويّاتها. إلى جانب ضمان الحصول على امتيازات ماليّة من الدولة. وهذا يحدث من خلال الضغط والتحالفات في الكنيست عند تشكيل الحكومة. وهي تلجأ دائماً إلى منح أصواتها للأحزاب اليمينية، في ظلّ رفض أحزاب الوسط واليسار مطلبها.
بات “الحريديم” يمثّلون لاعباً سياسياً أساسيّاً لا يمكن القفز فوقه عند تشكيل أيّ ائتلاف حكومي في إسرائيل. وذلك نظراً لمحافظتهم على تمثيلهم السياسي. وعدم قدرة الأحزاب الكبيرة على حسم التشكيل دون التحالف معهم. وهذا يجعلهم ممرّاً أساسيّاً وطرفاً في المفاوضات.
“طوفان الأقصى”… وتجنيدهم
فجّرت عملية طوفان الأقصى والحرب على غزة وسقوط أعداد كبيرة من الجيش بين قتلى وجرحى أزمة في المجتمع الإسرائيلي وامتعاضاً لدى شرائح واسعة جرّاء عدم مشاركة “الحريديم” في الحرب وتحمّل تكلفتها.
يتذرّع “الحريديم” بعدّة أسباب لرفضهم التجنيد. أبرزها انشغالهم بدراسة تعاليم اليهودية والشرائع التوراتية التي يعتبرونها “الضمان للحفاظ على بقاء إسرائيل”. وكذلك صعوبة الحفاظ على التديّن والتعاليم اليهودية بسبب الاختلاط في الجيش. ويعتبرون أنّ دراسة التوراة “سلاح روحاني” لحماية “شعب إسرائيل”. وأنّ التفرّغ لدراستها لا يقلّ أهمّية عن الخدمة العسكرية.
يتذرّع “الحريديم” بعدّة أسباب لرفضهم التجنيد. أبرزها انشغالهم بدراسة تعاليم اليهودية والشرائع التوراتية التي يعتبرونها “الضمان للحفاظ على بقاء إسرائيل”
من جهته، قال الكاتب الإسرائيلي نيهيميا شتراسلر في صحيفة “هآرتس”: “السبب الحقيقي لعدم رغبة اليهود الحريديم (الشرقيين) في تجنيد أبنائهم في الجيش هو عدم احترامهم للعلمانيين واحتقارهم. وعدم اعترافهم بالدولة ومعاداتهم للصهيونية. والنظر إلى الدولة كاحتياط ماليّ يجب سرقته”. مستدلّاً بما يقولونه عندما يُطلب منهم، في المحادثات الخاصة، الردّ على عدم خدمتهم بالجيش: “لماذا يجب أن نُجنّد للقتال في الحروب التي تشنّها أنت؟ تريد القتال، يمكنك أن تخدم. نحن لسنا على استعداد للتضحية بأطفالنا من أجل دولتكم”.
تهديد حكومة نتانياهو
يمثّل ملفّ تجنيد “الحريديم” تهديداً حقيقياً للائتلاف الحكومي الحالي. فقد فشلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 2017 في التوصّل إلى صيغة قانون توافقي يقضي بتجنيدهم. بعدما ألغت المحكمة العليا القانون الذي شُرّع عام 2015 والقاضي بإعفائهم من الخدمة العسكرية. وسوّغت ذلك بأنّ الإعفاء يمسّ بـ”مبدأ المساواة”. لكنّ الكنيست منذ ذلك الوقت دأب على تمديد الإعفاء لهم من الخدمة العسكرية.
يتجلّى الانقسام السياسي بين الأحزاب الكبيرة في نظرتها إلى أحزاب “الحريديم”. فعلى عكس التودّد الذي يظهره لها الليكود وزعيمه نتنياهو، تتّجه الانتقادات من أحزاب الوسط. مثل “هناك مستقبل” برئاسة يائير لابيد. وحزب “العمل” برئاسة ميراف ميخائيلي. وحزب “إسرائيل بيتنا” اليميني المعارض برئاسة أفيغدور ليبرمان. أحزاب تعتبرها “عالة” على المجتمع الإسرائيلي بسبب رفضها الخدمة العسكرية بداعي التفرّغ لدراسة الدين واعتمادها على المساعدات المالية من الدولة بدلاً من العمل.
تخشى هذه الأحزاب سعي الأحزاب الدينية إلى فرض الشريعة اليهودية على إسرائيل، وتحويلها إلى دولة “الهالاخاه” (الشريعة اليهودية). وهو توجّه لا تعارضه أحزاب مثل “القوّة اليهودية” برئاسة وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير. و”الصهيونية الدينية” برئاسة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
يمكن اعتبار موقف وزير الجيش يوآف غالانت حجر الأساس في الخلافات المتوقّع أن تتدحرج داخل الائتلاف الحكومي
غالانت يعارض نتانياهو
يمكن اعتبار موقف وزير الجيش يوآف غالانت حجر الأساس في الخلافات المتوقّع أن تتدحرج داخل الائتلاف الحكومي. حين أكّد ضرورة مشاركة “الحريديم” في القتال والتجنيد في الجيش. الأمر الذي اُعتبر تمرّداً من غالانت على رئيس الحكومة نتنياهو وعلى حزبه الليكود الذي يعدّ موقفه أقرب إلى موقف “الحريديم”.
يقف هذا الملفّ الذي على حكومة نتنياهو التوصّل إلى صيغة له قبل نهاية الشهر الجاري أمام عدّة سيناريوهات:
– أوّلها تفاقم الأزمة داخل مركّبات الحكومة،. وهو ما قد يؤدّي إلى سقوطها، وبالتالي الاتفاق على الذهاب لانتخابات مبكرة. وهذا الأمر لا يريده نتنياهو. الذي يقاتل من أجل المحافظة على ائتلافه الحكومي. لأنّ حلّه والذهاب لانتخابات مبكرة يعنيان بالنسبة له بداية نهايته السياسية. نظراً لتدنّي شعبيّته وما ينتظره من تحقيقات حول مسؤوليّته عن الإخفاق في 7 أكتوبر، والحرب الحالية على غزة. خاصة أنّ أحزاب الحريديم كانت قد هدّدت نتنياهو بأنّه إذا تمّ إقرار قانون التجنيد دون موافقتها عليه فستسقط الحكومة.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تقترح على فلسطين دولة “ب”.. مصيرها الانهيار
– والسيناريو الآخر هو إبرام تسوية تخضع بموجبها أحزاب “الحريديم” لخطة تجنيد سيتمّ الاتفاق عليها بين أعضاء الائتلاف الحاكم. أو تراجع غانتس وحلفائه عن مطالبهم بإلغاء إعفاء الحريديم من التجنيد. وهو الأمر الذي سينعكس سلباً على قواعدهم الشعبية. خاصة في ظلّ وجود شريحة واسعة تطالب بضرورة مشاركة “الحريديم” في الجيش وتحمّل أعباء وأثمان الحرب.