في 9 كانون الثاني الماضي، أقام صرب البوسنة احتفالاً حاشداً لمناسبة يوم جمهورية صربسكا. وهي أُعلنت عام 1992، وأصبحت بموجب اتفاقية “دايتون” عام 1995 كيان حكم ذاتي لـ”صرب البوسنة”. وتشكّل مع اتحاد “البوسنة والهرسك”، الذي يضمّ المسلمين البوشناق والكروات، “جمهورية البوسنة والهرسك”. اعتبر الاحتفال استفزازياً، وأدانه الاتحاد الأوروبي. ولا سيما أنّ المحكمة الدستورية بالبوسنة قضت عام 2015 بأنّ هذا اليوم هو “غير دستوري”.
هذا الاحتفال هو الأحدث ضمن سلسلة خطوات وقرارات لزعيم صرب البوسنة، ورئيس جمهورية “صربسكا”، ميلوراد دوديك في السنتين الأخيرتين. وذلك ضمن مساعيه الرامية إلى الاستقلال عن البوسنة. والحال نفسه أيضاً بالنسبة لـ”صرب كوسوفو”، الذين يدور بينهم وبين الحكومة المركزية صراع ينذر بشرر مستطير. خاصة أنّه أدّى إلى حدوث شغب وسقوط عدد من الضحايا خلال السنة الماضية.
توجّهت أصابع الاتّهام الغربية إلى موسكو بالوقوف خلف ما يحدث. وذلك من خلال تحريض الحلفاء الصرب لردّ “صاع” الدعم الغربي لأوكرانيا بـ”صاعين” في منطقة البلقان. وهي تعدّ من أخصب مناطق الصراع التاريخية في العالم، وتعرف بـ”برميل البارود”.
صراع جيوسياسيّ
لا بدّ من التذكير بأنّ السبب الأساسي للحملة الروسية على أوكرانيا كان مساعي حلف شمال الأطلسي “الناتو” لضمّ أوكرانيا. وهو ما اعتبرته موسكو تهديداً جدّياً لأمنها القومي. فكيف الحال بالبلقان حيث هناك أكثر من دولة عضو في “الناتو”، وهو الضامن للسلام الهشّ في تلك المنطقة؟
حسب التعريف الجيوسياسي الأكثر شيوعاً، فإنّ “البلقان” يضمّ 10 دول: ألبانيا، بلغاريا، كرواتيا، رومانيا، سلوفينيا، مقدونيا الشمالية، الجبل الأسود، صربيا، البوسنة والهرسك، كوسوفو. جغرافياً يقع “البلقان” على الحدود الجنوبية الغربية لروسيا، ويشكّل امتداداً طبيعياً لعمقها الاستراتيجي. لذا تُعتبر السهول البلقانية إحدى بوّابات موسكو.
تقول الرواية الغربية إنّ روسيا تلعب دور الشيطان المحرّض على العنف والدم هناك. وهذه الرواية هي السائدة في العالمين العربي والإسلامي، سواء في الأوساط النخبوية أو الشعبية. ولا سيما أنّ النظر إلى الصراع من زاوية دينية يُظهر أنّ موسكو تدعم الصرب الأرثوذكس على حساب المسلمين.
في 9 كانون الثاني الماضي، أقام صرب البوسنة احتفالاً حاشداً لمناسبة يوم جمهورية صربسكا
بيد أنّ هذه الرواية تختزل الصراع الجيوسياسي المعقّد الدائر ضمن فسيفساء من الأعراق والقوميّات والأديان. علاوة على كونها تتعارض مع المكانة المميّزة التي يحظى بها الإسلام في الاستراتيجية الروسية. إذ تولي الشرق اهتماماً كبيراً ضمن مساعيها الرامية إلى الانتقال من عصر القطب الأميركي الأوحد إلى عالم متعدّد الأقطاب. يعدّ الإسلام ثاني الديانات في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية. حيث يقدّر عدد المسلمين بنحو 20 مليون من أصل 146 مليون نسمة ونيّف وفق تقرير “المصلحة الفدرالية الروسيّة للإحصاء الحكومي”.
في 19 أيار 2023، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع مجموعة الرؤية الاستراتيجية الخاصة “روسيا – العالم الإسلامي”: “روسيا والدول الإسلامية ترتبط بعلاقات متينة يجمعها الالتزام بإقامة نظام عالمي أكثر عدلاً ومتعدّد الأقطاب”. وفي 5 كانون الأول الماضي، بادرت روسيا إلى اعتماد بيان جماعي ضدّ ظاهرة “الإسلاموفوبيا” في مقرّ الأمم المتحدة في العاصمة النمساوية فيينا. وشمل هذا البيان الأعمال الوحشية المتمثّلة بحرق القرآن الكريم.
الإرث الإسلاميّ وخطر الإبادة
من جانب آخر، ليس الصرب وحدهم من يريد الانفصال. بل كروات البوسنة أيضاً الذين يشعرون بالإحباط من الطغيان الديمغرافي للمسلمين على الكيان الذاتي الثنائي العرقية. أمّا العامل الأهمّ فهو أنّ البلاد منهكة بسبب فشل جهود الإصلاح. وانتشار الفساد. والشلل السياسي الذي يفرضه نظام الحكم المعقّد الذي أوجده الغرب عبر اتفاقية “دايتون”. إذ يقود البوسنة مجلس رئاسي منتخب مؤلّف من 3 أشخاص يمثّلون العرقيات الثلاث الرئيسة في البلاد، يتناوبون فيما بينهم على الحكم.
عام 2021، صدر كتاب “المآذن في الجبال.. رحلة إلى أوروبا المسلمة” للكاتب البريطاني من أصول بنغلادشية طارق حسين. وقد تحدّث فيه عن رحلة قام بها مع عائلته لمدّة 6 أسابيع إلى البلقان عام 2016. القضية الأساسية والمثيرة التي يطرحها هذا الكتاب هي أنّ الإرث الإسلامي في البلقان معرّض لخطر الإبادة. لكن ليس بسبب الإسلاموفوبيا، بل بسبب هجرة الأدمغة الذي عدّه الكاتب “أحد أكبر التهديدات التي تواجه المجتمعات المسلمة البلقانية”. الكتاب تصدّر مبيعات “أمازون”، واختير كتاب العام في ملحق مجلّة “تايم” الأدبي.
في ثنايا العقل السياسي الأوروبي، تمثّل منطقتا القوقاز والبلقان عازلاً يمنع تمدّد التأثير الروسي وأيضاً التركي إلى أوروبا الغربية
يقول حسين إنّه في مدينة “نوفي بازار” بإقليم “السنجق” الصربي ذي الأكثرية المسلمة “تغادر 10 حافلات يومياً إلى ألمانيا ولوكسمبورغ وبلجيكا وهولندا والسويد”. وهو ما يتّسق مع تقديرات العديد من المنظمات غير الحكومية حول الهجرة الكثيفة للأدمغة البلقانية إلى “الفردوس” الأوروبي. كما يضيء الكتاب على نقطة أخرى شديدة الأهمّية، وهي “تطبيع فكرة أنّ المسلمين أوروبيون بقدر أيّ شخص آخر. وذلك من خلال توضيح احتضان القارّة الأوروبية لدول ومجتمعات مسلمة أصلية قديمة”. وهو ما لا تنظر إليه النخب الأوروبية بعين الرضا، وتسعى دوماً إلى طمسه.
في حوار مع صحيفة “فتشيرني نوفوستي” الصربية، في 16 كانون الثاني 2019، عشية زيارته لصربيا، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “سياسة أميركا، وغيرها من بلدان الغرب في البلقان، تسعى إلى فرض الهيمنة على المنطقة. وهي بذلك تُعتبر عاملاً مزعزعاً للاستقرار”. وبعدها بأيام، قال بوتين في تصريحات لصحيفة “بوليتيكا” الروسية: “ننظر إلى توسّع حلف الناتو في البلقان على أنّه من بقايا حقب الحرب الباردة. وأنّه استراتيجية عسكرية وسياسية غير مستنيرة ومدمّرة، تقود إلى رسم خطوط تقسيم جديد تزيد من منسوب التوتّر في أوروبا”.
الضامن الحقيقيّ للسلام
في ثنايا العقل السياسي الأوروبي، تمثّل منطقتا القوقاز والبلقان عازلاً يمنع تمدّد التأثير الروسي وأيضاً التركي إلى أوروبا الغربية. وهذا ما دفع بالاتحاد الأوروبي إلى إغراء دول البلقان بعضوية العائلة الأوروبية، بغية الاستفادة من المزايا التي توفّرها. إلا أنّ 4 منها فقط نجحت في تجاوز عقبة الشروط القاسية، وهي بلغاريا، كرواتيا، سلوفينيا، ورومانيا. فيما بقيت الأخرى على لائحة الانتظار لسنوات طويلة. مع المواظبة على تقديم حزم مساعدات لها، لضمان إبقائها خارج المدار الروسي، مثل حال صربيا المرشّحة للعضوية منذ عام 2012.
من الأمور التي تسعى الرواية الغربية دائماً إلى طمسها، هي الراوبط التاريخية والثقافية التي تجمع البلقان وروسيا
مع تصاعد التوتّر في البوسنة وكوسوفو أخيراً، عاد الاتحاد الأوروبي وتعهّد بتسريع مسار عضوية: صربيا وكوسوفو والجبل الأسود وألبانيا ومقدونيا الشمالية والبوسنة بحلول عام 2030. في المقابل، فإنّ 7 من دول البلقان أعضاء في حلف الناتو، وانضمام البوسنة هو رهن مفاوضات مستمرّة منذ سنوات. كما أنّ كوسوفو تسعى أيضاً الى دخول الحلف. وبالتالي لم يبقَ سوى صربيا فقط خارجه. هذا التناقض الصارخ في تصعيب انضمام دول البلقان إلى الاتحاد الأوروبي، مقابل تسهيل الانضمام إلى حلف الناتو، يثبت صحّة كلام الرئيس الروسي.
والحال أنّ روسيا تسعى إلى الحدّ من تأثير التيار الجيوسياسي الأميركي والغربي في البلقان. أحد الأوجه البارزة لهذا التأثير يتمثّل في الانتصار الساحق الذي حقّقه مدرّس التاريخ دينيس بيسيروفيتش المدعوم من الغرب. وهو يدعو إلى “بوسنة موالية للاتحاد الأوروبي”. على حساب بكر بيغوفيتش الحليف المقرّب من تركيا، ونجل علي عزّت بيغوفيتش، الزعيم التاريخي للمسلمين “البوشناق”. في الانتخابات التشريعية التي حصلت في أيلول 2022. بيد أنّ تلك الانتخابات لم تنجح في نزع فتيل التوتّر، لا بل على العكس عمّقت هوّة الانقسام أكثر فأكثر.
إقرأ أيضاً: لماذا اشترطت “حركة غزّة” أن تضمن روسيا اتّفاقها مع إسرائيل؟
من الأمور التي تسعى الرواية الغربية دائماً إلى طمسها، هي الراوبط التاريخية والثقافية التي تجمع البلقان وروسيا. اتّكأت موسكو على هذه الروابط من أجل تعميق العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول البلقان. وهي تعمل اليوم على الاستفادة من هذه الروابط من أجل لعب دور “الضامن” لسلام حقيقي وراسخ.