شكّل انعقاد المؤتمر الذي دعت إليه جامعة الحكمة يوم الأربعاء الماضي. لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية وسبل تطبيق القرار 1701. فرصة للإضاءة على مخاطر عدم وجود مبادرة لبنانية لمواجهة الانعكاسات الكبيرة من جرّاء استمرار حرب الإبادة على غزة والعدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان. كما جاء المؤتمر على وقع مخاطر انزلاق لبنان إلى حرب واسعة وتعثّر المبادرتين الفرنسية والأميركية في إيجاد مدخل دبلوماسي لتطبيق القرار 1701. فهل باتت الاستراتيجية الدفاعية أحد الخيارات التي تُخرج الحلول الدبلوماسية من عنق الزجاجة؟ ومن أين تستمدّ الاستراتيجية الدفاعية شرعيّتها؟ وما هي أهمّ التحدّيات التي تواجه هذا الخيار؟
بعنوان “القرار 1701 والاستراتيجية الدفاعية الوطنية” في لبنان، نظّمت “كلّية العلوم السياسية والعلاقات الدولية” في جامعة الحكمة مؤتمراً يوم الأربعاء الفائت. وقد تحدّث فيه عددٌ من الخبراء في هذا الملفّ.
من بين المتحدّثين الرئيس الأسبق ميشال سليمان. ووزير الخارجية عبد الله بو حبيب. والنواب عبد الرحمن البزري ومحمد خواجة وملحم الرياشي. والوزراء السابقون ناصيف حتّي وإبراهيم نجّار ودميانوس قطّار وطارق متري. والمدير العامّ السابق للأمن العامّ اللواء عباس إبراهيم. والرئيس السابق للمجلس الدستوري عصام سليمان. وقائد اليونيفيل الجنرال أرولدو لازارو ساينز. والزميلان راغدة درغام وصلاح سلام. وكاتب هذه السطور… وغيرهم.
تحدّيات منطق دولة المساندة
لطالما كان دور لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي محطّ تجاذبات سياسية كبيرة داخلياً وإقليمياً. إذ كان وما يزال يشكّل نقطة خلاف كبيرة بين اللبنانيين. وتأكيد اتفاق الطائف لهويّة لبنان العربية لم يحسم هذا الخلاف. والإجماع العربي في الماضي على اعتبار لبنان “دولة مساندة” لم يعمّر طويلاً. إذ ما لبث أن تحوّل إلى “دولة مواجهة”. لكن دون أن تتوافر له السياسات الدفاعية اللازمة والإمكانات التي تؤهّله لمواجهة تداعيات هذا الدور. فكانت الكلفة كبيرة على الصعد المختلفة.
الموقف الرسمي للدولة اللبنانية المؤيّد للمبادرة العربية بعنوان “الأرض مقابل السلام”، التي أُقرّت في بيروت في عام 2002، لم يحظَ بموافقة الحزب. فهو يتسلّح بعقيدة مختلفة بالنسبة لإسرائيل. وبالتالي انعكس ذلك على القدرة على تحقيق إجماع وطني يتعلّق بدور لبنان.
بعنوان “القرار 1701 والاستراتيجية الدفاعية الوطنية” نظّمت “كلّية العلوم السياسية والعلاقات الدولية” في جامعة الحكمة مؤتمراً يوم الأربعاء الفائت
إدراج الحكومات المتتالية في بياناتها الوزارية ثلاثيّة “الشعب والجيش والمقاومة” لطالما اعتبرها غالبية اللبنانيين محصورة بدور المقاومة الإسلامية في تحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة من قبل إسرائيل. القرار 1701، بعد العدوان الإسرائيلي في عام 2006، أنتج هدوءاً على الحدود الجنوبية. الأمر الذي عزّز هذا الاعتقاد لدى الجميع.
حرب الإبادة على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” غيّرت كلّ هذه المعادلات. ولم يتأخّر الأمين العامّ للحزب في الإعلان أنّ جبهة الجنوب لا تتوخّى سوى مساندة جبهة غزة. لكنّ التعامل الوحشي الإسرائيلي مع هذا الخيار، ونسف قواعد الاشتباك بهدف تغيير الأوضاع في الجنوب، فتحا هذه الجبهة على احتمال الحرب الواسعة وفصلها عن مسار جبهة غزة. فهل بات خيار المساندة خارج السيطرة في ظلّ التهديدات الإسرائيلية الكبيرة واستهداف مناطق تبعد 70 كلم عن الحدود؟ وعلى الرغم من تفادي الحزب الانزلاق إلى حرب واسعة، هل يتحوّل لبنان من جديد إلى دولة مواجهة؟ وهل بات المخرج هو الانتقال إلى الاستراتيجية الدفاعية التي تحصر دور لبنان في الدفاع عن أراضيه؟
شرعيّة الاستراتيجية الدفاعيّة
تستمدّ الاستراتيجية الدفاعية شرعيّتها السياسية من اعتبارها أحد الحلول الممكنة لتجنّب الدخول في حرب واسعة لا قدرة للبنان على تحمّل نتائجها. ومن الرهان عليها تحديد أسس الدفاع عن لبنان في وجه التهديدات الإسرائيلية القائمة ودورها في تثبيت سلطة الدولة في قرار السلم والحرب.
كما تستمدّ هذه الشرعية من التجارب السابقة والحاضرة ومن الكلفة البشرية والماليّة والاقتصادية. ففي تلك التجارب تحوّل لبنان إلى ساحة فقدت فيها الدولة ومؤسّساتها الدستورية التأثير على مجريات الأمور التي تتعلّق بأمنها القومي. وواجهت تحدّي تخلّفها عن تنفيذ القرارات الدولية.
منطق “الساحة” الذي يفتقر إلى أيّ أساس قانوني في الدولة، يشهد اليوم تلاشي المنطق السياسي الذي تأسّس عليه. بحيث باتت كلفته كبيرة على من حمل لواءه. كما بات لبنان على المستوى الوطني غير قادر على تحمّل تبعاته.
حرب غزة غيّرت كلّ المعادلات. ولم يتأخّر الأمين العامّ للحزب في الإعلان أنّ جبهة الجنوب لا تتوخّى سوى مساندة جبهة غزة
وتستمدّ الاستراتيجية الدفاعية شرعيّتها القانونية من مصادر عديدة:
1- من الدستور اللبناني.
2- ومن حقّ الدولة الحصري في ممارسة وظائفها السيادية، وفي مقدَّمها الدفاع والأمن الوطني.
3- ومن اتفاق الطائف الذي جمع بين ثنائية تقرّ بحقّ اللبنانيين في تحرير الأراضي المحتلّة بالوسائل كافّة. وموجب بسط سلطة الدولة اللبنانية على كلّ أراضيها.
4- ولا شكّ في أنّ الشرعية القانونية لإقرار الاستراتيجية الدفاعية وبسط سلطة الدولة، تكمن أيضاً في القرارات الدولية ذات الصلة. إذ أكّدت كلّ هذه القرارات واجب الدولة بسط سلطتها على أراضيها وحصرية السلاح ومراقبة ضبط الحدود.
5- وقد شكّل اتفاق الهدنة الموقّع بين لبنان وإسرائيل في عام 1949 إحدى المرجعيّات المهمّة للقرار 1701.
التحدّيات الأساسيّة.. أمس واليوم
في جلسات الحوار الذي جرى في عام 2006، اعتبر الأمين العامّ للحزب أنّ بقاء الخيار التكتيكي بأيدي المقاومة من شأنه أن يرفع المسؤولية عن الدولة اللبنانية. لكنّ العدوان الإسرائيلي في عام 2006، استهدف البنى التحتية. والتهديدات الإسرائيلية الحالية على لسان المسؤولين في حكومة نتنياهو لم تستثنِ الدولة اللبنانية ولا مرافقها الحيويّة. وقد أكّد أكثر من مسؤول في إسرائيل التوجّه نحو استنساخ نموذج غزّة المدمّرة في لبنان.
الليونة التي أبداها نصرالله منذ فترة حيال مناقشة الاستراتيجية الدفاعية، ربّما لها علاقة مباشرة بهذا الأمر، وبالتداعيات التي شهدتها القرى الحدودية عقب العدوان الإسرائيلي المستمرّ. إذ يتمّ استهداف السكان المدنيين ببيوتهم وأرزاقهم وأرواحهم.
بالتأكيد، يتطلّب هذا الموقف من الاستراتيجية الدفاعية إقراراً واضحاً من الحزب والراعي الإقليمي له بدور الدولة الحصري في الدفاع عن لبنان. ويمكنها أن تستفيد من خبرة المقاومة ورجالها في التعامل مع التهديدات الإسرائيلية.
تقتضي المسؤولية الوطنية ملاقاة نصرالله إلى منتصف الطريق إذا كان يفكّر جدّياً في هذا الأمر. وأن يتوقّف البعض عن الرهانات على ربط الاستراتيجية الدفاعية بتطبيق القرار 1559 أو الذهاب إلى نظام فدرالي. والأقرب هو القرار 1701.
الشرعية القانونية لإقرار الاستراتيجية الدفاعية وبسط سلطة الدولة، تكمن أيضاً في القرارات الدولية ذات الصلة
يتطلّب إقرار الاستراتيجية الدفاعية حواراً وطنياً ومسؤولاً. ويفترض النظر بعمق إلى المخاطر الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة. أي تلك التي تتعلّق باستمرار الحرب في غزة ومخاطر تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار.
أحد التحدّيات التي تواجه الاستراتيجية الدفاعية هي القدرة على التعامل مع هذه المخاطر. وإعادة هيكلة الجيش وتسليحه وتطويره كي يكون قادراً على حماية لبنان من الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية.
لكنّ التحدّيات الأكبر تكمن في الأسئلة التالية:
– هل التوصّل إلى استراتيجية دفاعية ممكن في ظلّ الصراع القائم في المنطقة؟
– وكيف يمكن إعداد استراتيجية دفاعية دون توافق إقليمي – دولي؟
– وهل تحلّ الاستراتيجية الدفاعية معضلة إبعاد قوات الحزب إلى شمالي الليطاني وتفتح الطريق باتجاه تطبيق القرار 1701؟
إقرأ أيضاً: سياسيّونا في واشنطن: لماذا يحتقروننا؟!
– وكيف يمكن التعامل مع الموقف الإسرائيلي الرافض للانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلّة؟
– وأخيراً ما هو الدور المنتظر من لبنان كي يبقى على التزامه بالقضيّة الفلسطينية؟
– وهل يكون الدور السياسي والدبلوماسي والثقافي بديلاً عن المساندة العسكرية؟
* أستاذ الدراسات العليا في كلّية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية.