على ميناء عائم في بحر غزّة، سيُعرف باسم ميناء بايدن، تعود الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط. هي عودة بعد محاولات كثيرة لتخرج أميركا المنطقة والذهاب للاهتمام بمنطقة المحيط الهادئ والباسيفيك لمواجهة الصين. لكن ما لبثت واشنطن أن وجدت بكين حاضرة في الشرق الأوسط مع رؤية سياسية ومشروع اقتصادي سياسي، هو “الحزام والطريق”.
كل ما كانت أميركا قد سعت للانكفاء عنه تجد نفسها ملزمة بالعودة إليه. في إطار وضع رؤية جديدة وخلق ترتيبات وتغيير وقائع لإعادة فرض مسارات جديدة. وباب عودة الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط هو ميناء بايدن في غزّة.
فإذا كانت الحرب العالمية الأولى هي حقبة الحرب على أسواق تصريف إنتاج الثورة الصناعية، والسيطرة على منابع النفط، فإن هذه الحرب الدولية الصامتة هي على ممرّات النفط ومعابره، ومنابع الغاز وممرّاته، وطرق التجارة العالمية.
يمثل الإعلان الأميركي عن إنشاء ميناء عائم على بحر غزة تجليات العودة الأميركية الى الشرق الأوسط. هذا الميناء “الإصطناعي” قابل لأن يتحول الى ميناء ثابت. وبالتالي فهي بوابة عودة واشنطن الى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر معاً. في ظل العمليات التي تشنها بوارج أميركية وبريطانية ضد مواقع الحوثيين في اليمن. وذلك رداً على الإستهدافات الحوثية للسفن بما يؤثر سلباً على حركة الملاحة الدولية.
ميناء التهجير… ومواجهة روسيا؟
ميناء بايدن فوق بحر غزّة له عنوان أميركي واضح وهو توفير ادخال المساعدات الى القطاع. لكنّه عملياً يثبّت استمرار إسرائيل بالحرب حتّى تحقيق أهدافها. ويؤكّد عدم قدرة أي طرف دولي على دفعها إلى وقف الحرب.
لكنّ ميناء أميركا سيتحوّل إلى معبر جديد في حال الإستمرار بإغلاق معبر رفح على حدود مصر. وقد يكون منطلقاً لخروج آلاف الفلسطينيين من القطاع، بالعودة إلى المشروع الإسرائيلي الأساسي: التهجير.
كل ما كانت أميركا قد سعت للانكفاء عنه تجد نفسها ملزمة بالعودة إليه. في إطار وضع رؤية جديدة
من أهداف هذا الميناء، الذي سيتحول الى موطئ قدم أميركي ثابت في البحر المتوسط، أنه سيكون مقابلاً للوجود الروسي على ميناء اللاذقية. ستتمركز قوات أميركية فوق مياه البحر الأبيض المتوسط. بما لذلك من ربط ما بين البحرين المتوسط والأحمر.
للميناء أيضاً بعد أوسع يتصل بغاز غزّة:
– أولاً لجهة السيطرة على الحقول هناك.
– وثانياً لربطها بالغاز الإسرائيلي. وذلك في إطار المشروع الأميركي الإعتماد على بدائل للغاز الروسي. لتغذية أوروبا، منذ اندلاع الحرب الروسية على اوكرانيا.
ما بعد غزّة: ليبيا ولبنان.. والبحر الأحمر
اهتمام أميركا بالغاز في البحر الأبيض المتوسط، يمتد من غزة الى ليبيا. ومن غزة الى لبنان أيضاً. إذ لا يمكن اغفال حجم الإهتمام الأميركي بترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل. وتركيز واشنطن على ضرورة بدء الإسرائيليين باستخراج الغاز من حقل كاريش. ذلك أيضاً لا ينفصل عن المساعي الأميركية للمسارعة في ترسيم الحدود البرية بين لبنان وقبرص واسرائيل. وهنا معلوم حجم التنسيق الإسرائيلي القبرصي. وآخره بحث تل أبيب في شراء ميناء قبرصي ليكون بديلاً عن مرفأ حيفا في حال اندلعت حرب كبرى مع حزب الله. كما أن الميناء الأميركي العائم هدفه الأساسي هو الربط بين غزة وقبرص في مجال نقل المساعدات الإنسانية.
هي عودة أميركية صريحة إذاً الى الشرق الأوسط. تعبّر عن مراجعة نقدية أميركية. أساسها ربما التراجع عن إهمال للقضية الفلسطينية من جهة، والتوجّه نحو معالجة جدية لواقع الحوثيين في اليمن. في تكفير عن الخطأ الأميركي عندما كان التحالف العربي قاب قوسين أو أدنى من حسم معركة الحديدة. وحينها منعه موقف أميركي أوروبي. ليجد الأميركيون والأوروبيون أنفسهم حالياً في حاجة للعودة إلى حيث تركوا العرب وحدهم.
إنه الصراع على المعابر والممرّات الأساسية. التي لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخلّى عن السيطرة على مفاصل أساسية فيها أو منها. كما هو الحال بالنسبة إلى سيطرة أميركا على مساحة أساسية على الحدود السورية العراقية لقطع طريق إيران من طهران إلى بغداد فدمشق فبيروت.
ميناء بايدن سيتحوّل إلى معبر جديد في حال الإستمرار بإغلاق معبر رفح على حدود مصر. وقد يكون منطلقاً لخروج آلاف الفلسطينيين من القطاع
أين سوريا الأسد؟
يأتي ذلك في ظل ما يعيشه النظام السوري من ضغوط تفرض عليه “النأي بنفسه” عن إصدار أيّ موقف يتّصل بتطوّرات غزّة. والوقوف في خانة الحرج الكبير مع إيران ومحور الممانعة. هذه الحرب والضغوط فرضت على إيران وقف رحلات الطيران المدني الجوّي إلى سوريا بسبب ما تمت تسميته بـ”سوء الأوضاع” هناك.
كذلك بعد مساعٍ إيرانية كثيرة لبلورة مشاريع لها ولطرقاتها في المنطقة. من الكوريديور الذي يربطها ببيروت عبر دمشق وبغداد، إلى المساعي الدائمة للولوج الى البحر الأبيض المتوسط. وهو ما منعت من تحقيقه في سوريا بفعل التدخل الروسي. فعادت وسعت لتكريس نفوذها في البحر المتوسط انطلاقاً من لبنان وبفعل مسار ترسيم الحدود البحرية. وهي التي كانت تطمح لأن يكون لها نفوذ في بحر غزّة.
حذف شاطىء إيران على المتوسّط
أمام كلّ هذه الوقائع، تستمرّ طهران في العمل على مسارين:
– الأوّل: عملياتها العسكرية في البحر الأحمر، طمعاً بالاعتراف الدولي، من أميركا وأوروبا أوّلاً، بنفوذها وتأثيرها هناك. وبالسعي الدائم والمستمرّ لامتلاك نفوذ في البحر الأبيض المتوسط. إما عن طريق السيطرة على لبنان وبحره باتفاق لاحق شبيه باتفاق الترسيم البحري… لكن بما يضمن اعترافاً بنفوذها وربما المدخل له سيكون مسار الترسيم البري والتفاهم برعاية أميركية على تجنّب الحرب بين الحزب واسرائيل. وإمّا من خلال ما تسعى إليه مع دمشق وبغداد مجدّداً.
الحرب والضغوط فرضت على إيران وقف رحلات الطيران المدني الجوّي إلى سوريا بسبب ما تمت تسميته بـ”سوء الأوضاع” هناك
– والثاني: ما أعلنه مستشار الرئيس الإيراني وأمين المجلس الأعلى للمناطق التجارية الصناعية الحرّة والاقتصادية الخاصة في إيران، حجة الله عبد المالكي. فهو كشف، الثلاثاء الماضي عن التوصل إلى اتّفاق مع 5 دول، بينها سوريا والعراق، من أصل 21 دولة تتباحث معها إيران لإنشاء منطقة حرة مشتركة.
عبد المالكي أعلن أنّ إنشاء منطقة حرّة ثلاثية مشتركة سيجعل وصول إيران إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط سهلاً للغاية. كما سيعود بالنفع على الدول الثلاث. هنا لا بد من التذكير أنه في العام 2015 وفي أعقاب الإتفاق النووي بين إيران والغرب، تقدّم وزير خارجية ايران حينها محمد جواد ظريف بمقترحات ومشاريع للوصول الى البحر المتوسط من لبنان. فقدّم عرضاً بإعادة ربط خط نفط العراق وإصلاحه مقابل الحصول على الإستثمار فيه.
إقرأ أيضاً: ميناء بايدن في غزّة: قوات أميركيّة في فلسطين؟
يحيلنا هذا إلى البحث عن الأسباب التي تدفع الأمين العام للحزب دوماً إلى الحديث المتكرّر عن عروض إيرانية للإستثمار في قطاعات لبنانية على صلة بالطاقة. كالإستثمار في قطاع الكهرباء، لكن بناءً على اتفاق مع الدولة اللبنانية.