2024 سنة انتخابية، غير كلّ السنين. في نصفها الأوّل، الانتخابات الروسيّة الرئاسيّة ونتائجها محسومة سلفاً، وستكرّس فلاديمير بوتين قيصراً مطلق اليد في الكرملين. وفي نصفها الثاني، الانتخابات الأميركية الرئاسية، غير معلومة النتائج. والسباق فيها إلى البيت الأبيض محتدم بين الرئيس الحالي جو بايدن ومنافسه الرئيس السابق دونالد ترامب.
الانتخابات الروسيّة لن تغيّر وجه روسيا ولا المسارات الدولية. لا سياق الحرب في أوكرانيا مرتبط بها مباشرة، ولا الصراع في الشرق الأوسط سيتأثّر بنتائجها، ولا النظام العالمي المتعدّد الأقطاب سيقوم في أعقابها. على العكس من ذلك، الانتخابات الأميركية قد يترتّب عليها تغيير وجه أميركا ووجه العالم. ولن يكون تأثيرها بسيطاً على روسيا نفسها.
بوتين كان “أشطر” من نظرائه الأميركيين، عاصر خمسة منهم، سكنوا البيت الأبيض ورحلوا منه. أمّا هو فبقي محافظاً على العرش بلا منازع. فصّل سلطةً ونظاماً وتشريعاتٍ على مقاسه. وجعل من ضعف منافسيه وخصومه سرّاً لقوّته. ومن كان منهم ذا بأس وحنكة أبعده طوعاً أو قسراً أو نفياً أو سجناً أو حتى موتاً ملتبساً. لقبه يتبدّل تبعاً لـ”الديمقراطية الروسيّة” الفريدة من نوعها. فهو مرّة رئيس للدولة ومرّة رئيس للحكومة. ويطمح إلى أن يكون رئيساً إلى الأبد. لكنّه فعلاً القيصر غير المتوّج على العرش الروسيّ.
النجم الذي يلاعب الدببة.. ويطير
بنى لنفسه صورة القائد وكرّس التاريخ الروسي الحافل بالأمجاد لخدمتها. وساهم توق الروس إلى زعيم يعيد بلادهم إلى مجدها السابق في بناء صورته. وزيّن الصورة بتظهير نفسه ندّاً للغرب وحامياً للشرق. شريحة واسعة من الروس تعتبر أنّه لو كان بوتين سيّئاً لروسيا لما تعرّض لمثل هذا الهجوم. هو نموذج للرجل الروسي على نحوٍ لا لبس فيه. مع ملامح الوجه العميقة وتلك العيون الخارقة. لا يبذل أيّ جهد للتعبير عن ذاته.
الانتخابات الروسيّة لن تغيّر وجه روسيا ولا المسارات الدولية
عرض مهاراته الكثيرة للجمهور. لاعب الدببة. اصطاد النمور. جاب السماء مع طيور اللقلق. غاص مع الدلافين، وركض في الغابة. تحوّل قبلة الإعلام وعشيقاً للكاميرا ونجماً في المحافل، مثيراً بذلك ليس غيرة الزعماء وحدهم بل نجوم السينما أيضاً. لا بل وضعته مجلّات عالمية مرموقة ومراكز شهيرة مرّات عدّة في صدارة ترتيب رجال العالم الأكثر نفوذاً. خطف باستعراضاته ومغامراته الحربية في فترة حكمه الطويلة الأضواء على المسرح الدولي. وكأنّه يقول للجميع: مهلاً، لا يمكن رسم مستقبل الأرض من دون روسيا.
بعيداً عن الانتخابات الروسيّة وعن الانتخابات الأميركية، أعاد بوتين للسياسة الدولية نكهة عقود القرن العشرين الماضية التي عرفت زعماء وقادة تركوا بصماتهم واضحة في التاريخ. ومن سوء حظّ حكّام العالم في العقدين الأخيرين أنّ ولايتهم تزامنت مع وجود “سارق قلوب وعقول” في الكرملين خطف منهم كلّ التألّق والنجوميّة.
بوتين وعودة روسيا إلى الملعب
لكنّ هذه الصورة على الرغم من العمل الدؤوب والباهظ الثمن لتظهيرها مؤثّرة، ظلّت ملتبسة. ولم تضاهِ صورة فلاديمير إيليتش لينين ولا جوزف ستالين ولا بطرس الأكبر ولا كاترينا الثانية.
لقد طرح بوتين على العالم واقعاً جديداً تتشابك فيه قوى مختلفة. لكن على الرغم من شهرته الواسعة في الداخل والخارج، فإنّ منتقديه يؤكّدون أنّه لا يوجد اليوم الكثير للاحتفال به في روسيا في عهده. هو الذي يوصف بأنّه سلطوي، أوتوقراطي، مناهض للحرّيات، مناهض للديمقراطية على النمط الغربي. يرفض الليبرالية والتعدّدية ويروّج للأفكار المحافظة والأرثوذكسية والقومية. لكنّ كلّ هذا الجدل المثار حول شخصه ونزعاته المحافظة أو العدوانية لا يحجب عنه تميّزه. فهو استطاع تجاوز نقاط الضعف الداخلية في روسيا، ليعزّز مكانة البلاد العالمية ويجعلها لاعباً دوليّاً أساسيّاً.
بعيداً عن الانتخابات الروسيّة وعن الانتخابات الأميركية، أعاد بوتين للسياسة الدولية نكهة عقود القرن العشرين الماضية
يعتقد بوتين أنّ الغرب يريد إبقاء روسيا في الصفّ الخلفيّ. ويريد إطالة أمد الإهانة التي مثّلها سقوط الاتحاد السوفيتي والأزمة الاقتصادية والسنوات الأخيرة لبوريس يلتسين المدمن على الكحول. وفي المقابل، يصنّف نفسه كصاحب قضيّة، تتمثّل في أن يعيد إلى روسيا عظمتها ويضع حدّاً للتأثيرات الأجنبية. ويرى أنّ ما خسرته روسيا حقيقة بسقوط الاتحاد السوفيتي هما النفوذ والقوّة وليست الشيوعية بعينها. وبالنسبة له لا يهمّ أن تكون روسيا قيصرية أو سوفيتية، متديّنة أو ملحدة… المهمّ أن تكون قويّة موحّدة، ودائماً تحت السيطرة.
خسرت روسيا كثيراً بسقوط الاتحاد السوفيتي. وعلى رأس ما خسرته عدم امتلاكها أيديولوجية قويّة توحّد مواطنيها في الداخل وتبشّر بها في الخارج. وأتى الحلّ في توليفة تجمع بين القومية الروسيّة والمسيحية الأرثوذكسية، تحت رعاية كلّ من الدولة والكنيسة.
فمن ناحية، تستعيد الكنيسة دورها الرمزي المفقود إبّان حكم السوفيت. وفي المقلب الآخر توفّر التوليفة الجديدة لبوتين أيديولوجية قويّة موحِّدة. وفي الوقت نفسه قابلة للإخضاع والسيطرة، وبدا أنّها كانت صفقة ذكيّة ورابحة للطرفين.
خسرت روسيا كثيراً بسقوط الاتحاد السوفيتي. وعلى رأس ما خسرته عدم امتلاكها أيديولوجية قويّة توحّد مواطنيها
امتحانات بوتين الكثيرة
بوتين الذي أظهر في سني حكمه أنّه لا يحبّ الخسارة، يُمتحَن اليوم وغداً، كما بالأمس، في الانتخابات الروسيّة:
– في داخل البيت الروسي.
– وعند عتبة البيت في الجمهوريات السوفيتية السابقة في البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى.
– وفي المياه الدافئة على الشواطىء السورية والليبية للبحر المتوسط.
– ومن جديد في قلب إفريقيا الحارّة.
– الامتحان الأصعب هو في أوكرانيا. فخسارته هناك، إن حصلت، لا تكون فقط نهاية مأسويّة لحلمه القيصري. بل ستكون بمنزلة وضع القضبان لحبس موسكو خلف الأسوار الحمر للكرملين.
– يالطا “القرميّة” كانت رمزاً لجعل الاتحاد السوفيتي قطباً دولياً. وأيّ هزيمة مذلّة في يالطا “الأوكرانية” من شأنها أن تضع روسيا الكبرى إلى جانب الاتحاد السوفيتي في متحف التاريخ. هل يمكن موسكو بعد ذلك أن تجنّب بيلاروسيا أو الشيشان وداغستان أو تتارستان مصيراً مشابهاً لمصير أوكرانيا؟
لن ينسحب بوتين من أيّ نزال يُعتبَر تحدّياً وجودياً له ولروسيا الكبرى. لكنّ المسألة الآن تعدّت الجانب الأوكراني والإقليمي المحض. وتحوّلت إلى قضية دولية بامتياز بعد الدخول “الأطلسي” المدجّج بالسلاح والدعم السياسي والمالي والعقوبات الاقتصادية المدمّرة على خطهّا. الأمر الذي جعلها حرباً عالمية مصغّرة تقودها في المقلب الآخر واشنطن في مواجهة موسكو وحلفائها.
إقرأ أيضاً: السودان الكارثة المغيّبة: 18 مليون جائع
بات مصير هذه الحرب معلّقاً بشكل كبير على نتيجة الانتخابات الأميركية لا الروسيّة. فالمرشّح الواصل إلى البيت الأبيض في الخريف المقبل سيحدّد هل سيكمل هذه الحرب مباشرة أو بالوكالة وشكل الدعم وحجمه. وعليه النتيجة السياسية النهائية للانتخابات الروسيّة ستبقى معلّقة في انتظار نتائج نظيرتها الأميركية.