تتوالى المفاجآت، في وقائع حرب إسرائيل ضدّ غزة، على وقع التفاوض حول الهدنة، كما حصل في مجزرة شارع الرشيد. إسرائيل تتوعّد “حماس” في رفح وفلسطينيّي الضفة الغربية، والحزب في جنوب لبنان. وإيران تتوقّع صموداً لحليفَيها. أمّا تطوير الهدنة المرتقبة نحو مفاوضات على الدولتين وتطبيق القرار 1701، فرهن الميدان والرئاسة الأميركية.
فاجأت مجزرة الجيش الإسرائيلي في شارع الرشيد في غزة أمس الأول اندفاعة الأميركيين والوسطاء القطريين والمصريين نحو إرساء هدنة رمضان. وبدا واضحاً التجاذب شبه اليوميّ بين المفاوضات حولها. وبين التسريبات حول التحضيرات الإسرائيلية لاقتحام منطقة رفح بعد الهدنة ومواصلة التهجير في الضفة الغربية. وبين التوقّعات الأميركية حسب CNN و”الفورين بوليسي” و “الفورن أفيرز” لحملة عسكرية إسرائيلية ضدّ لبنان.
ينسحب هذا التجاذب تناقضاً في تقديرات مصادر دبلوماسية في بيروت، وفي الانطباعات التي تعقب زيارات بعض المسؤولين الغربيين.
إسرائيل لا تريد القضاء على “حماس” والحزب؟
في قراءتهم لِما هو آتٍ يستند الذين يراهنون على توجّه الوضع الميداني نحو نوع من التهدئة تحتاج إليه المرحلة الانتخابية الرئاسية في أميركا إلى جملة عوامل. ومن دون استبعاد بعض أوجه التصعيد قبل التهدئة، يعدّد هؤلاء تلك العوامل كالآتي:
1- يتساءل أحد السفراء المعنيين بالوضع اللبناني الداخلي وإنهاء الشغور الرئاسي: هل من مصلحة إسرائيل والدول التي تدعمها القضاء كلّياً على “حماس” في فلسطين أو على الحزب في لبنان؟ فالدولة العبرية تريد الإبقاء على عدوّ فلسطيني لها كي تبرّر رفضها السلام مع الفلسطينيين على أساس حلّ الدولتين. وهي تستفيد من خطر قوّة تابعة لإيران على حدودها مع لبنان من أجل تلقّي الدعم السياسي والعسكري المتواصل. وبالتالي تكتفي بالتلويح بالحرب. لكنّها ترغب بحلّ لمسألة تهديد الحزب لأمن المنطقة الشمالية بالوسائل الدبلوماسية عبر الوسط الأميركي آموس هوكستين. والأخير عرض مع قيادتها مسوّدة حلّ سيناقشها قريباً مع الجانب اللبناني، لتطبيق القرار الدولي الرقم 1701 على مراحل. وجلّ ما يهمّ إسرائيل ابتعاد أسلحة الحزب الثقيلة وتشكيلاته المقاتلة إلى شمال نهر الليطاني.
تتوالى المفاجآت، في وقائع حرب إسرائيل ضدّ غزة، على وقع التفاوض حول الهدنة، كما حصل في مجزرة شارع الرشيد
التشبّه بحكومة لبنان واسترداد أموال إيران
2- “حماس” تحتاج إلى وقف الحرب، أو على الأقلّ إلى الهدنة، لأخذ النفس بعد الذي تعرّضت له غزة من تدمير وقتل. وآخره مجزرة شارع الرشيد. بهدف الإفادة من التعاطف الدولي مع الغزّيين. وهي مستعدّة للتوصّل إلى صيغة لإنهاء الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية والقطاع. ويقول مصدر وزاري عربي إنّ “حماس” تشعر بأنّها أخطأت لأنّها لم تشكّل حكومة لغزّة مستقلّة عنها شبيهة بالحكومة اللبنانية الحالية. يكون الوزراء فيها مقرّبين من الأحزاب وليسوا ملتزمين حزبياً. إذ كان ذلك سيخفّف من وطأة القطيعة الدولية مع غزّة من حيث تعامل المجتمع الدولي معها. وبالتالي من المعاناة الإنسانية للغزّيين.
3- إيران احتفظت بمسافة عن حرب غزة بحيث نأت بنفسها عن المسؤولية عن “طوفان الأقصى”. كما مارست نفوذها لدى أذرعها، لا سيما لبنانياً، من أجل ضبط عملياتهم العسكرية. وانعكس ذلك خفضاً من الحزب لسقف المواجهة في الجنوب. فبعدما كان شعار إعلانه لسقوط عناصره “شهيد القدس” صار الشعار “شهيد على طريق القدس” ثمّ “لإسناد غزة”. وتصرّ طهران على وسطاء الهدنة من أجل وقف إطلاق النار في غزة أن يستعجلوها كمخرج لوقف أذرعها تدخّلاتها العسكرية لمساندة غزة. فهي لا تريد المزيد من الخسائر في وضعية هذه الأذرع، وخصوصاً الحزب، لأنّها تضعف قوّتها التفاوضية. وما يهمّ القيادة الإيرانية هو استقرار النظام الإيراني. واستئناف التفاوض مع أميركا على النووي لرفع العقوبات عنها. واسترداد أرصدتها بعشرات مليارات الدولارات. ولذلك تحوّل الضغط العسكري الإيراني على إسرائيل عبر الحلفاء، إلى ضغط من طهران على حلفائها لإبقاء المواجهات العسكرية تحت سقف معيّن.
4- واشنطن بدأت جسّ النبض مع دول عربية وخليجية حول صيغة إعادة إعمار غزة، بموازاة المسار التفاوضي المزمع حول حلّ الدولتين.
تقارب بعد خلافٍ حول إيران
يستبعد البعض أن تقود الهدنة إلى مسار تفاوضي حول ترتيب البيت الفلسطيني ثمّ في شأن حلّ الدولتين. ويصرّون على أنّ إسرائيل تتهيّأ “للضربة العسكرية الكبرى” في رفح ولبنان. ومن الشواهد استمرار المجازر، وآخرها في شارع الرشيد.
“حماس” تحتاج إلى وقف الحرب، أو على الأقلّ إلى الهدنة، لأخذ النفس بعد الذي تعرّضت له غزة من تدمير وقتل. وآخره مجزرة شارع الرشيد
ترتكز مظاهر هذا التوجّه على الآتي:
1- رفض الدولة العبرية أيّ كيان فلسطيني مستقلّ واستحالة إقدام واشنطن على اختراقٍ ما في هذا المجال خلال الزمن الانتخابي الأميركي. فبنيامين نتنياهو يدرك حاجة الرئيس جو بايدن إلى الأصوات اليهودية بمواجهة دونالد ترامب. ويعرف كيف يستفيد من ذلك. والمفارقة أنّه مع الضجّة الإعلامية حول تباحث أميركي عربي في حلّ الدولتين. تطغى مفاوضات حول الفئات العمرية للمصلّين الذين يدخلون المسجد الأقصى في الضفة الغربية، خلال شهر رمضان المبارك.
2- تقاربت مواقف واشنطن وتل أبيب حول إنهاء الانفلاش الإيراني الإقليمي. بعدما أصاب تهديد أمن الملاحة البحرية العالمية في البحر الأحمر إدارة بايدن بالخيبة من التساهل مع طهران. ولإصرار نتنياهو على استهداف أذرع إيران، كما هو حاصل في سوريا بشكل شبه يومي، صدى قويّ في الكونغرس.
اطمئنان إيرانيّ لصمود غزّة والحزب
3- حرب التجويع التي نظّمتها إسرائيل ضدّ الغزّيين لإضعاف المقاومة تمهّد للضربة الكبرى الأخيرة في هذه الحرب في رفح. وقد يحمل اقتحام رفح في المقابل مفاجآت عسكرية لا تستبعدها المصادر المعنيّة برصد قدرات الحركة. وذلك على الرغم من سياسة المجازر، كما حصل في شارع الرشيد.
واشنطن بدأت جسّ النبض مع دول عربية وخليجية حول صيغة إعادة إعمار غزة، بموازاة المسار التفاوضي المزمع حول حلّ الدولتين
ينقل مسؤولون لبنانيون عن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان قوله للبعض أثناء زيارته الأخيرة لبيروت: إنّ القيادة الإيرانية على اتصال متواصل مع “حماس” القادرة على الصمود. فمصانع الأسلحة والذخيرة في القطاع تعمل 24 ساعة على 24. كما يُنقل عن دبلوماسي إيراني في بيروت تأكيده لفرقاء لبنانيين أنّ “حماس” لم تستخدم بعد ما تملكه من أسلحة فعّالة. وأنّها “لن تخرج منكسرة من الحرب”. وهو كلام يوحي بأنّ طهران زوّدت الحركة بأسلحة تمكّنها من مقاومة التوغّل العسكري.
4- بات معروفاً أنّ الحزب يملك بدوره أسلحة أكثر فعّالية كمّاً ونوعاً من أسلحة غزة. تثق طهران بأنّها قد تردع إسرائيل. وهناك دعوة للحزب إلى ألّا يفرط في المراهنة على أن يحول أيّ تقارب أميركي إيراني دون الحرب على لبنان. فبعض المتابعين لموقف الحزب يرون أنّ تشديد قادته على قدرة أميركا على لجم إسرائيل إذا قرّرت شنّ الحرب ضدّه في لبنان لا يكفي. وليس كافياً القول إنّ معرفة الأميركيين بقدرات الحزب ستدفعهم إلى منع نتنياهو من المغامرة. وإذا فعل فستضطرّ واشنطن إلى مساندته.
إقرأ أيضاً: روسيا: دينيون وملحدون و “جنوبيون”… ضد الشيطان الأكبر
وفي هذا السياق يقول دبلوماسي أوروبي يعمل في القدس زار بيروت والتقى متّصلين بالحزب، كما ينقل سياسيون لبنانيون عنه: إنّ “الإسرائيليين خائفون منكم”، في معرض شرحه لجدّية نيّتهم شنّ هجوم على لبنان.
لمتابعة الكاتب على X: