من المواهب المعترف بها لبنيامين نتنياهو أنّه أقدر رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على إسرائيل منذ تأسيسها على التعاطي مع البقاء في الموقع. وخدمة ذلك في الإعلام.
على مدى أطول سنوات قضاها رئيساً للحكومة، دون احتساب الوظائف الرسمية التي شغلها قبل ذلك… فإنّ مجموع ظهور بنيامين نتانياهو على وسائل الإعلام المحلّية والأجنبية يؤهّله لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية.
منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حتى آخر مؤتمر صحافي عقده، ضاعف ظهوره المعتاد على وسائل الإعلام الإسرائيلية. ليس لوضع الجمهور في صورة التطوّرات، وإنّما لإثبات أنّه هو وحده مركز القرار في إسرائيل. وباقي من بقي مجرّد أجرام تدور في فلكه. أمّا نظرته لمنافسيه الذين يتفوّقون عليه أحياناً في الاستطلاعات، ويتفوّق عليهم دائماً في صنع القرارات والسياسات، ففيها قدر كبير من التعالي عليهم، والاعتماد على قصر نفَسهم في الصراع معه. ولنتذكّر كيف أهدر خصومه مئات آلاف الأصوات في آخر انتخابات جرت. فتوافرت له أغلبية مريحة في الكنيست، ما يزال يتغذّى عليها ويستمدّ منها قوّة متجدّدة في قيادة إسرائيل والتحكّم بمساراتها.
الخبرة في الإدارات الأميركية
مؤهِّل آخر يتفوّق فيه نتنياهو على خصومه، وهو كيفيّة التعامل مع الإدارات الأميركية، سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية. وذلك من خلال خبرته التفصيلية في الوضع الداخلي الأميركي. وبمعرفته لحدود تأثير الضغط عليه وما يمكن أن يتحمّل ويتعايش معه. ومنذ انقضاء شهر عسله مع إدارة ترامب الجمهورية، واقتراب انتهاء دورة بايدن الديمقراطية، تمكّن نتنياهو من احتواء الاختلافات التي نشأت بينه وبين الإدارة الديمقراطية. وقد بلغت ذروتها قبل السابع من أكتوبر، خلال معركة “إصلاح القضاء” التي ألّبت الشارع عليه وعلى ائتلافه. وهو ما دعا الإدارة إلى الوقوف إلى جانب المتظاهرين ضدّه. وإلى فرض عقوبة “فولكلوريّة” عليه تمثّلت في إغلاق باب البيت الأبيض أمامه. والتقى به بايدن على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في فندق بنيويورك.
عقوبة كهذه تمكّن نتنياهو من تجاوزها. ولو أنّه كان يحرّض أنصاره في الكونغرس و”الإيباك” وحيثما وجدوا من أجل فتح أبواب البيت الأبيض أمامه.
مؤهِّل آخر يتفوّق فيه نتنياهو على خصومه، وهو كيفيّة التعامل مع الإدارات الأميركية، سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية
التطوّر الدراماتيكي الذي هبط عليه دون أن يحتسب، حدَثَ جرّاء موقعة السابع من أكتوبر. فبدل أن يذهب إلى البيت الأبيض جاء البيت الأبيض إليه. وجاءت معه الأساطيل والدعم السياسي والتسليحيّ الذي وفّر له بقاءً في مركز القرار. ووفّر لحربه المدانة أخلاقياً وسياسياً من قبل العالم كلّه، فيتو أميركياً يمنع وقفها، وغطاءً متجدّداً لمواصلتها. أمّا الاختلافات التي يجري الحديث عنها فما هي إلّا تسريبات لا تقدّم ولا تؤخّر في المسار الرئيسي لحربه ومتطلّباتها وأهدافها.
نتانياهو باقٍ في موقعه
ما دامت لا تلوح في الأفق المنظور انتخابات مبكرة، وما دام خصومه ومنافسوه ينجرّون وراءه في جميع قراراته الحربية، وما يخدمها من سياسات، فسوف يبقى في موقعه. وذلك دون أن تفارقه إمكانية تغيير المعادلة “بانتصاره المطلق” الذي وضعه كمسمّى لانتصاره الشخصي، وتجديد قيادته لإسرائيل.
التطوّر الدراماتيكي الذي هبط عليه دون أن يحتسب، حدَثَ جرّاء موقعة السابع من أكتوبر. فبدل أن يذهب إلى البيت الأبيض جاء البيت الأبيض إليه
نقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها هي كيفية تعامله مع المبادرة السياسية قيد الإعداد في أميركا والمنطقة. فلقد وجد اللغة التي يرضي بها المتشدّدين في معسكره، ويزايد بها على خصومه المعتدلين، ولا يغلق الباب أمام الأميركيين. فهو يرفض الإعتراف الأميركي بالدولة الفلسطينية من جانب واحد. ويقترح بديلاً يرضي الأميركيين في الوقت ذاته بقوله إنّ “كلّ أمر مع الفلسطينيين يجب أن يتمّ بالتفاوض”. وبين الرفض وبديله يعطي نتنياهو مجالاً واسعاً للّغة، وما توفّره من مساحات للتحايل.
في وصف حالته قال الصحافي الإسرائيلي آيريس ليعال في هآرتس إنّ “ما فعله نتنياهو كزعيم فاشل يستحقّ عليه النفي إلى جزيرة إلبا. لكن يبدو أنّ لديه تسع أرواح”.
ماذا لو دارت الدوائر عليه، واضطرّ إلى خوض انتخابات مبكرة وفشل فيها؟ فكيف سيكون وضعه في إسرائيل والحالة هذه؟
إقرأ أيضاً: حكاية الحكومات في فلسطين… والرئيس
من مواهب نتنياهو أنّه يستطيع البقاء في مركز القرار حين يكون رئيساً للوزراء. وفي مركز التأثير حين يكون في المعارضة. وفي كلتا الحالتين يظلّ مالك الأرواح التسع التي توفّر له البقاء في الحياة السياسية. غير أنّ ما يمكن أن ينهي ذلك كلّه في غير مصلحته… هو أن يجرؤ القضاء الإسرائيلي على إدانته في التهم الكبرى التي ما يزال يحملها على كتفيه، والتي أُضيفت إليها تهمة التقصير في منع كارثة السابع من أكتوبر. لو يجرؤ القضاء فساعتئذ يذهب نتنياهو إمّا إلى السجن أو إلى البيت في أفضل الأحوال.