الانتخابات الإيرانيّة: خامنئي ضدّ خامنئي

مدة القراءة 9 د

إنّها الانتخابات الإيرانيّة. إيران تنتخب مجلساً جديداً للشورى، ومثله لخبراء القيادة المخوّل قانونياً تعيين المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية وعزله والإشراف على أدائه. .ويبدو أنّ الصراع سيكون بين خامنئي… وخامنئي.

بين عامَي 1996 و2000، شهدت حملات الانتخابات الإيرانيّة الاشتراعية  منافسة حادّة بين التيّارين الإصلاحي والمحافظ. ولم تترك البرلمانات المنبثقة من تلك الاستحقاقات أيّ شأن إيراني داخلي وخارجي إلا وناقشته بسخونة. بما في ذلك اتجاه الثورة ومسارها.

بطبيعة الحال، أحبط مجلس صون الدستور المعيّن من المرشد، أيّ تشريعات تمسّ بالثورة أو تزيد من هامش الحرّيات التي يمكن أن تُمنح للناس. ويحظى هذا المجلس بسلطات واسعة بما في ذلك سلطة نقض أيّ مشروع قانون برلماني. واستبعاد أيّ مرشّح لأيّ انتخابات. سواء أكانت رئاسية أو برلمانية أو محلية.

التنافس بين التيّارات المتنوّعة والاختلافات الكبيرة في توجّهات المرشّحين بثّت نوعاً من الحيوية السياسية والحماسة الشعبية للمشاركة في الانتخابات الإيرانيّة. فقد تجاوزت نسبتها في الدورتين الانتخابيّتين اللتين حملتا الإصلاحي محمد خاتمي إلى سدّة الرئاسة مرّتين، تسعين في المئة. وانتظر الملايين من الإيرانيين نساء ورجالاً ساعات طويلة للإدلاء بأصواتهم على أمل إحداث التغيير السلمي والتدريجي. الناخبون يريدون التغيير. والنظام روّج للمشاركة الواسعة كدليل على شرعيّته وجماهيريّته.

إفراغ الانتخابات من مضمونها

قبل أن تنتقل طموحات الشبّان والشابّات من إحداث التغيير في صناديق الاقتراع إلى الشارع… أفرغ النظام الانتخابات من مضمونها القادر على التغيير وفتح أبوابه. وجعلها أقلّ تنافسية. بأن أطلق يد مجلس صون الدستور في وضع القيود والسدود أمام أيّ مرشّح لا يلتزم نهج المرشد والحرس الثوري التزاماً مطلقاً بمن فيهم أبناء الثورة نفسها.

إنّها الانتخابات الإيرانيّة. إيران تنتخب مجلساً جديداً للشورى، ومثله لخبراء القيادة المخوّل قانونياً تعيين المرشد الأعلى للجمهورية وعزله والإشراف على أدائه

وبلغ التشدّد ذروته في الانتخابات الإيرانيّة الرئاسية عام 2009. تلك التي حملت المحافظ محمود أحمدي نجاد الأقلّ شعبية في استطلاعات الرأي، إلى سدّة الرئاسة. على حساب الإصلاحي المعارض حسين مير موسوي صاحب الشعبية الواسعة آنذاك. هذا الأمر فجّر احتجاجات شعبية حاشدة عُرفت بـ”الثورة الخضراء”. بعدما رفع المشاركون فيها الشعارات الخضر التي تسأل: “أين ضاع صوتي؟”. و”من سرق صوتي؟”. ولا يزال قادة هذا الاحتجاج الذي قُمع بالقوّة قيد الإقامة الجبرية.

هنا يبرز دور “مصفاة” مجلس صون الدستور، وإنشاء هيئات جديدة غير منتخبة تتمتّع بسلطة سنّ القوانين. مثل المجلس الأعلى للثورة الثقافية، والمجلس الأعلى للفضاء الإلكتروني، ومجلس التعاون والتنسيق بين السلطات الثلاث. كلاهما كلّها أفرغت الهيئات المنتخبة من مضمونها. ولا سيما مجلس الشورى الذي ضمرت صلاحيّاته، وصار تكملة شكليّة للوجه “الديمقراطي” للنظام.

بين أنصار خامنئي… وأنصار خامنئي

هكذا صارت الانتخابات الإيرانيّة تنافساً شكليّاً بين المرشد علي خامنئي وأنصاره من جهة، والمرشد علي خامنئي وأنصاره الآخرين من جهة أخرى. وإن حمل بعضهم صفات مثل المعتدلين أو المحافظين. أي باختصار: “خامنئي ضدّ خامنئي”. ودفع ذلك إلى إحجام الإيرانيين عن الاهتمام بالانتخابات والتعويل عليها وانخفاض نسب المشاركة تدريجياً بعدما زاد اقتناعهم باستحالة التغيير من الداخل.

 الانتخابات الإيرانيّة

أدّت عملية “التطهير” ووجود “المصافي” إلى خروج أصحاب الكفايات والخبرة، والإتيان بـ”ثوّار” أصغر سنّاً وأكثر حماسة. وهو ما أفقد الانتخابات عامل جذب النخب للعمل في الشأن العامّ. وفاقم العجز البيروقراطي للنظام. وساهم في تفشّي الأزمات الاقتصادية، وتزايد الاستياء الشعبي العامّ وتفجّر تظاهرات حاشدة في السنتين المنصرمتين. على غرار ما حصل بعد وفاة الشابّة مهسا أميني.

يغيب عن هذه الانتخابات الإيرانيّة التيّار الإصلاحي بعدما أُبعد أقطابه عن المشاركة “لعدم أهليّتهم”. وبسبب القانون الانتخابي الجديد الذي يقيّد حركتهم. وبات التنافس محصوراً بين أهل البيت الواحد و”جيرانهم”، أي التيارَين الأصولي والأصولي الألطف المسمّى المعتدل.

التنافس بين التيّارات المتنوّعة والاختلافات الكبيرة في توجّهات المرشّحين بثّت نوعاً من الحيوية السياسية والحماسة الشعبية للمشاركة في الانتخابات الإيرانيّة

المحافظون يتوحّدون

اتّفق الجناحان الرئيسيان للأصوليين (الرئيس الحالي لمجلس الشورى، محمد باقر قاليباف، والرئيس الإيراني الحالي، إبراهيم رئيسي)، على قائمة موحّدة للانتخابات البرلمانية. تتضمّن هذه اللائحة 30 مرشّحاً عن دائرة العاصمة طهران، التي تحدّد ملامحها الاتجاهات المقبلة للبرلمان. وجاء الاتفاق بين هذين الجناحَين، بعدما كان مقرّراً أصلاً، وفي ضوء الخلافات بينهما، أن يشاركا بقائمتَين منفصلتَين. لكن يبدو أنّ قرار التيّار المعتدل (القريب من الرئيس السابق للبرلمان، علي لاريجاني، ورئيس الجمهورية السابق، حسن روحاني) خوض الانتخابات بقائمة “صوت الشعب” التي يتصدّرها علي مطهري، حفّز الأصوليين على الاتحاد فيما بينهم، درءاً للهزيمة التي قد يُمنَون بها.

هذه أوّل انتخابات منذ وقوع الاضطرابات التي أعقبت وفاة الشابّة الكردية مهسا في أحد مراكز الشرطة في طهران. ولذلك تحوّلت المشاركة فيها من عدمها، إلى واحدة من أهمّ القضايا، وإلى مؤشّر إلى مدى رضى أو تذمّر الإيرانيين من السلطات.

انتخابات مجلس خبراء القيادة

تزامناً مع الانتخابات الإيرانيّة البرلمانية، ستُجرى انتخابات مجلس خبراء القيادة الذي يُنتخب أعضاؤه من رجال الدين، ويضمّ 88 مقعداً. وتمّت الموافقة على أهليّة 188 مرشّحاً لهذه الدورة من انتخابات الخبراء. ومعظمهم من الوجوه القريبة من التيّار الأصولي. وكان لرفض أهليّة حسن روحاني للمشاركة في هذه الانتخابات، صدى كبير، بعدما أثار انتقادات كثيرة. وفي هذا الخضمّ، أحجم أحمد جنّتي، الرئيس الحالي لمجلس خبراء القيادة والبالغ من العمر 97 عاماً، عن المشاركة في الدورة الحالية من الانتخابات، فيما لا يزال غير معلوم مَن سيخلفه.

من بين الوجوه المرجّحة لتولّي رئاسة مجلس خبراء القيادة في دورته المقبلة، تتصدّر أسماء كلّ من:

– محمد علي موحدي كرماني، الممثّل السابق لخامنئي في “الحرس الثوري”.

– وإبراهيم رئيسي رئيس الجمهورية الحالي والنائب الأوّل لرئيس مجلس خبراء القيادة الحالي.

– وهاشم حسيني بوشهري النائب الثاني لرئيس مجلس الخبراء الحالي.

تزامناً مع الانتخابات الإيرانيّة البرلمانية، ستُجرى انتخابات مجلس خبراء القيادة الذي يُنتخب أعضاؤه من رجال الدين، ويضمّ 88 مقعداً

ونظراً إلى أنّ المرشد الأعلى الحالي يبلغ من العمر 85 عاماً، فإنّ أهمّية هذه الدورة من انتخابات مجلس خبراء القيادة، وعلى وجه التحديد هيئته الرئاسية، تتضاعف، لأنّ مدّته ثماني سنوات، وعليه يُرجّح أن يتقرّر مصير المرشد الأعلى المقبل في خلال ولايته.

مع ذلك بقيت هذه الانتخابات الإيرانيّة مهمّة لأنّ توقيتها مهمّ، وربّما الأهمّ منذ عام 1979 لأسباب عدّة. فوفقاً للنظام الحاكم، تواجه الدولة في الوقت الحالي تحدّيات خارجية تستدعي تكريس سيطرة تيّار المحافظين الأصوليين. لقربه من فكر المرشد وقدرته على إدارة شؤون البلاد في المرحلة الحالية. لا سيما مع ترقّب نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة واحتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الابيض مجدّداً. وما قد يطرحه ذلك من احتمال تبنّي سياسة أميركية صارمة ضدّ طهران.

وتستدعي هذه التحديات أيضاً استعداداً من جانب النظام لاحتمال أن توسّع إسرائيل حربها على إيران. التي تتّهمها الأولى بأنّها ضالعة في عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي.

هل فشل النظام؟

في الداخل، ثمّة من يرى أنّ النظام فشل في تحقيق التوازن بين استيعاب متطلّبات الناس، على غرار احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية وتقليص حدّة التوتّرات الاجتماعية، وبين استمرار الدور الإقليمي الذي يقوم به على مستوى المنطقة.

وفقاً لذلك ثمّة علاقة طرديّة بين تفاقم الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، واستنزاف الموارد الإيرانية فى الإنفاق على مساعي التمدّد في الخارج، بدلاً من استثمار تلك الموارد في تحسين الأوضاع المعيشية.

طبعاً النظام يحمّل تيّار المعتدلين الذي كان مسيطراً على السلطة من 2013 إلى 2021، مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية وانهيار الاتفاق النووي. وهذا ربّما ما دفع بمجلس صون الدستور إلى استبعاد رمز تلك المرحلة حسن روحاني من الترشّح في انتخابات مجلس الخبراء.

أحبط مجلس صون الدستور المعيّن من المرشد، أيّ تشريعات تمسّ بالثورة أو تزيد من هامش الحرّيات التي يمكن أن تُمنح للناس

وعليه استخدم النظام الأزمات الخارجية وما تفرضه من تحدّيات على الداخل لحضّ الناس على المشاركة الواسعة في الاستحقاق الانتخابي، عبر آليّتين:

الأولى: محاولة استمالة فئة من الشعب عبر الرجوع إلى “قيم الثورة الإسلامية” التي تنصّ على ضرورة “نصرة المستضعفين”. وهو المبرّر الذي تستخدمه إيران لتفسير تدخّلاتها في أزمات المنطقة.

والثانية: الترويج لكون ما يقوم به النظام في الخارج ليس إلا ضربة استباقية لمصادر التهديد التي تواجهها إيران قبل أن تصل إلى أراضيها.

إقرأ أيضاً: إيران… وثمن إنقاذ لبنان

هكذا سيلتزم قسم من الناخبين مقاطعة الانتخابات الإيرانيّة تعبيراً عن استيائه من سياسات النظام. وقسم آخر سيُقبل على صناديق الاقتراع كواجب شرعي وحماية لـ “منجزات الثورة”. في الظروف الصعبة والحسّاسة. ويبقى المقياس نسبة المشاركة. ففي حال انخفضت ضَمِن التيّار الأصولي فوزه وحفاظه على مواقعه. لكنّ ذلك في الوقت نفسه سيكشف أنّ شرعية النظام باتت عند اختبار صعب.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…