“مشروع القانون المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها” هو عنوان طويل وفضفاض. إنّه “مشروع قانون” سوف يتقدّم به مجلس وزراء يفتقر إلى الكمال الدستوري والكفاءة التنفيذية. وسوف يبقى كسابقيه مشروعاً تتقاذفه مكوّنات السلطة السياسية الحاكمة ويسترسل بعضها في توجيه الاتّهامات لبعضها الآخر في إطار توزيع الأدوار لأنّنا اعتدنا عليها في إقرار فقط ما يُضيف إلى مكاسبها. والإشارة إلى “أوضاع المصارف” استُعملت عمداً للدلالة على أنّ هناك اهتماماً بأوضاعها، وسوف تكون هناك خطوات، إذا تمّ إقرار المشروع في قانون، لـ “إعادة تنظيمها”، أي المصارف. أمّا في تفاصيل هذا المشروع فتمّت صياغته لإنقاذ المصارف على حساب المواطن والاقتصاد، ولن أدخل في تفاصيله لأنّ العنوان الكبير هو الأهمّ.
أ- بين الجهل… ما هي متطلّبات إعادة الهيكلة؟
لا شكّ ولا جدل في ضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي في لبنان. يكمن المشكل في مقاربة إعادة الهيكلة من قبل حكومة تفتقر إلى الموارد والإمكانات، وغير قادرة على التحصّن وراء إنجازاتها للدفع إلى الأمام. ولا شكّ أنّها تُعاني الاهتراء الدستوري. ولهذا اقتضى التوضيح.
ما يحتاج إليه لبنان اليوم هو إعادة هيكلة القطاع المصرفي، كمكوّن أساسي من مكوّنات القطاع الخاص، بعدما أُصيب بصدمة سلبية كانت لتكون قاتلة لو لم تتحرّك المصارف ومصرف لبنان لاتّخاذ قرارات وتنفيذ إجراءات كانت ضرورية لكنّها غير قانونية بكلّ المعايير. التعثّر غير المنظّم (Disorderly Default) هو الصفة التي اعتمدتها مؤسّسات التصنيف الائتماني العالمية في توصيف أداء السلطة السياسية في 7 آذار 2020 عند إعلانها التوقّف عن خدمة الدين العامّ وتداعياته المدمّرة على القطاع الماليّ في لبنان. هذا الواقع وهذه الحقيقة سقطا سهواً من قانون الموازنة العامّة للعامين 2022 و2024. وقبل أن تسأل، كلّا لم تُعرض ولم تُناقش ولم تُقرّ الموازنة العامّة لعام 2023. وضع هذا الأداء المميّز لبنان، للمرّة الأولى، ضمن مجموعة الدول المتعثّرة، وحصل على التصنيف الائتماني “تعثّر محدود” (Restricted Default – RD).
“مشروع القانون المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها” هو عنوان طويل وفضفاض. إنّه “مشروع قانون” سوف يتقدّم به مجلس وزراء يفتقر إلى الكمال الدستوري
حملت المصارف التجارية في لبنان قسراً هذا التصنيف، وحملت معه مشاكله، ومن أهمّها تدهور علاقة المصارف في لبنان مع المصارف المراسلة، وهو ما أدّى إلى الحجز على جزء من سيولتها الخارجية لدى هذه المصارف بحجّة أنّها مؤونة أصبحت ضرورية لحماية موجودات المصارف المراسلة أمام حتمية المخاطر الائتمانية التي سوف تنتج عن تعثّر الدولة اللبنانية في سداد التزاماتها، إضافة إلى ارتفاع حادّ في كلفة تقديم الخدمات المصرفية، وشحّ في السيولة بالعملة الأجنبية لدى المصارف اللبنانية في الداخل.
تستمرّ معاناة القطاع المصرفي حتى اليوم، وهذا لا يعفيه من المسؤولية، وأصبحت إعادة هيكلة القطاع المصرفي ضرورة. وهذا يعني حكماً:
– إعادة هيكلة المصارف التي أثبتت، في السابق، وتُثبت اليوم قدرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد، وقد ينتج عن ذلك عمليات دمج (وقد تكون غير ممكنة بسبب عدم توفّر التمويل)، و/أو ضخّ رأسمال جديد، ومن الأفضل أن يكون مصدره كبار المساهمين الحاليين، إذ سوف تكون شروط المساهمين الجدد صعبة المنال. ومن الممكن اللجوء إلى عمليات الـ “بيل إن” – Bail-In، أي تحويل أرصدة كبار المودعين إلى أسهم، وهو خيار جيّد ووارد جداً، لكنّه يواجه تحدّيات كبيرة من كبار المساهمين الحاليين، وخصوصاً في المصارف القادرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد واجتهدت خلال سنوات الأزمة إلى تحسين وتمكين قدراتها في الداخل. التحدّي الكبير في هذه المرحلة يكون تحديد حجم “كبار المودعين”، والقيمة الحقيقية للسهم في المصرف.
لا خوف على أموال المودعين، بل بالعكس، إطلاق عجلة إعادة هيكلة النظام المصرفي وتنظيم العمل فيه يُحسّنان من حظوظ المودعين في الاطمئنان على أموالهم
– معالجة المصارف الأخرى المتعثّرة من خلال التصفية أو الاستحواذ. تصفية موجودات المصرف المتعثّر هي عملية تكرّرت في عدّة محطات هنا في لبنان، لكن هذه المرّة، بسبب حجم وطبيعة الأزمة، قد يكون عدد المصارف المتعثّرة كبيراً، وعرض هذا الكمّ من الموجودات للبيع سوف تكون له تداعيات سلبية وصادمة في السوق. لذلك من المستحسن إحصاء الموجودات في المصارف الهالكة، وجمعها كلّها في مؤسّسة خاصة (Special Purpose Vehicle – SPV) يتمّ تأسيسها بهدف معالجة هذه المصارف وموجوداتها. ومن الممكن اللجوء إلى التسنيد (Securitization)، وهو إصدار سندات دين طويلة الأجل بضمانة هذه الموجودات تعود ملكيّتها للقطاع الخاص، وإيراداتها أيضاً تعود إلى القطاع الخاص، أي المودعين. هذه السندات تكون مقابل رهونات عقارية (Mortgage Backed Security_ MBS)، وهي قابلة للتداول في الأسواق المالية.
في كلّ الحالات، لا خوف على أموال المودعين، بل بالعكس، إطلاق عجلة إعادة هيكلة النظام المصرفي وتنظيم العمل فيه يُحسّنان من حظوظ المودعين في الاطمئنان على أموالهم.
ب – والتجاهل… لماذا تمّ التعتيم عمداً على تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 154؟
صدر هذا التعميم، في نسخته الأولى، عن مصرف لبنان في 27 آب 2020 وأُعطي العنوان “إجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان” وتضمّن عدداً من الموادّ المهمّة، وإليكم نكهة منها:
– على كلّ مصرف أن يقوم بتقويم عادل لموجوداته ومطلوباته يساعده على وضع خطّة بغية تمكينه خلال فترة زمنية محدودة من الامتثال بحسب المقتضى ولو بشكل متدرّج، لكلّ النصوص القانونيـة والأنظمـة المصرفية المطبّقة على المصارف، سيما المتعلّق منها بالسيولة والملاءة وإعـادة تفعيـل نشـاطاتها وخدماتها المعتادة لعملائها بما لا يقلّ عما كانت عليه قبل تشرين الأول 2019.
الممرّ الإلزامي لنجاح إعادة هيكلة القطاع المصرفي هو تمكين لجنة الرقابة على المصارف من متابعة امتثال المصارف لأحكام التعميم 154
– على المصارف، تعزيزاً للسيولة لديها، سـيما لدى مراسليها في الخارج، أن تقوم بحَثّ عملائها، الذين قام أيّ منهم بتحويل ما يفوق مجموعه خمسمئة ألف دولار أميركي إلى الخارج خلال الفترة المبتدئة من الأول من تموز 2017 حتى تاريخ صدور هذا القرار على أن يودعوا في “حساب خـاصّ” مجمّد لمدّة خمـس سـنوات مبلغاً بين 15% إلى 30% من القيمة المحوَّلة. يطبَّق هذا القرار على رؤساء وأعضاء مجالس إدارة وكبار مسـاهمي المصارف و”على الإدارات العليا التنفيذية” للمصارف وعملاء آخرين مستوردين والأشخاص المعرّضين سياسياً (Politically Exposed Persons – PEPs)
– على كلّ مصرف أن يقوم بتكوين حساب خارجي حرّ من أيّ التزامات لدى مراسليه في الخارج لا يقلّ عـن 3% مـن مجمـوع الودائـع بالعملات الأجنبيـة لديه كما هي في 30 أيلول 2022.
وهناك الكثير من التوجيهات والإجراءات التي تُعزّز الملاءة والسيولة الداخلية والخارجية وتُساهم في تمكين المصرف من الاستمرار في خدمة الاقتصاد، وطناً ومواطناً.
لماذا تجاهل مصرف لبنان، ووزارة المالية، والحكومة، ومجلس النواب، ولجنة المال والموازنة، ولجنة الإدارة والعدل أهمّية وضرورة امتثال المصارف لأحكام هذا التعميم؟! لماذا هذا التعتيم؟!
إقرأ أيضاً: الحكومة تتهرّب من “الدولار المصرفيّ”: هل يكتفي المودعون بـ150$؟
في الختام أريد التنبيه والتشديد على ضرورة عدم إصدار رخص لمصارف جديدة حتى التأكّد من نجاح إعادة هيكلة المصارف الجيّدة ومعالجة المصارف الهالكة. والممرّ الإلزامي لنجاح إعادة هيكلة القطاع المصرفي هو تمكين لجنة الرقابة على المصارف من متابعة امتثال المصارف لأحكام التعميم 154. وفي ظلّ وجود هذا التعميم يكون مشروع الحكومة هذا تعدّياً فاضحاً على عمل ودور وصلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف، ويهدف إلى إنشاء جيش جديد من الموظّفين في القطاع العامّ والمستشارين مع ما يترتّب على ذلك من مصاريف تشغيلية إضافية… وحركة من دون بركة!
* خبير المخاطر المصرفية وباحث في الاقتصاد.