على الرغم من تدفّق الأساطيل باتجاه البحر الأحمر، فإنّ واشنطن وحلفاءها يتجنّبون الاعتراف بأنّ أزمة البحر سببها صراع اليمن وغياب الدولة عن فرض قوّتها لإنهاء العبث على شواطئ البلاد. وفيما طهران توحي بقدرتها على التحكّم بالممرّات المائية، فإنّ اليمنيين ودول المنطقة يشتبهون بتواطؤ غربي مع إيران يمنع على نحو ملتبس فتح ملفّ اليمن.
لم يكن يسيراً أن تتوصّل 27 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي إلى تشكيل قوة خاصة لحماية الملاحة في البحر الأحمر. غير أنّ الأمر يضيف إلى تحالف “حارس الازدهار” الذي تقوده الولايات المتحدة مدداً عسكرياً غربياً يسعى إلى ردع جماعة الحوثي في اليمن عن استهداف سفن الشحن التجارية في المياه المقابلة لليمن، لا سيما في مضيق باب المندب وخليج عدن. ومع ذلك، وعلى الرغم من الضربات الأميركية-البريطانية ضدّ بنى تحتيّة عسكرية حوثية، فإنّ من الصعب أن تشكّل القوة الأوروبية إضافة نوعية تعيد الأمن والاستقرار إلى المنطقة.
كانت دول أوروبية امتنعت عن الالتحاق بالتحالف الأميركي البحري في البحر الأحمر. بعض تلك الدول اتّخذت هذا الموقف لأسباب تتعلّق بالحرب في غزّة وإعراضها عن المشاركة في جهد عسكري دوليّ قد يُفهم أنّه دعم لإسرائيل في حربها هناك (إسبانيا، بلجيكا، إيرلندا). فيما أحجمت دول أخرى عن المشاركة رافضة وضع قواها البحريّة تحت إمرة قيادة أميركية (فرنسا، إيطاليا). فكان أن خرج الاتحاد الأوروبي بقوّة “اسبيدس” التي تقودها اليونان وتشمل أيضاً قطعاً بحريّة من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا.
على الرغم من تدفّق الأساطيل باتجاه البحر الأحمر، فإنّ واشنطن وحلفاءها يتجنّبون الاعتراف بأنّ أزمة البحر سببها صراع اليمن لإنهاء العبث على شواطئ البلاد
عسكرة البحر الأحمر
تعسكرت منطقة البحر الأحمر وباتت تجوب داخلها الأساطيل الدولية في وقت ترفض فيه الدول المطلّة على البحر الانخراط في أيّ من التحالفات الدولية المقترحة لحماية الملاحة والدفاع عن سلاسل التوريد. وإذا ما ثبت لاحقاً أنّ العسكرة باتت طويلة الأمد، فإنّ دول المنطقة تحمّل جماعة الحوثي وإيران من خلفها مسؤولية العبث بمصالحها أوّلاً، وخصوصاً قناة السويس في مصر، وتحويل البحر الآمن إلى فضاء عسكري ملتهب عرضة لهذا التدخّل الدولي الواسع الذي قد يصبح طويل الأمد ونهائياً.
على هذا تبدو إيران أنّها قد نجحت في تأكيد إطلالتها على الملاحة الدولية في البحر الأحمر على منوال ما سبق أن لوّحت به ممّا يمكن أن تطلقه من أخطار على الممرّات المائية في الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي.. إلخ. ولئن تثبت الضربات الأميركية-البريطانية حتى الآن فشلها في منع صورايخ ومسيّرات الحوثيين من تهديد السفن، حتى العسكرية منها، فذلك يعني أنّ إيران ما زالت تمسك بورقة أساسية في تقرير مصير مستقبل التجارة العالمية، خصوصاً ما بين آسيا وأوروبا، وإرباك وصول الإمدادات من سلع وطاقة.
لقد أوحت طهران بالوصفة المضمونة في الساعات الأخيرة. قالت التقارير إنّ إيران تدخّلت من خلال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري إسماعيل قاآني لدى الفصائل المسلّحة في العراق لوقف عمليّاتها ضدّ مواقع الأميركيين العسكرية والدبلوماسية. والأرجح أنّ الفصائل ستستجيب لـ “التمنّي” الإيراني بما يؤكّد للعالم، ولواشنطن بالذات، احتكارها لمفاتيح الحلّ والربط في هذا الصدد على الرغم من ادّعاءات طهران المملّة باستقلال قرار الفصائل الحليفة. يوحي التطوّر لمن يهمّه الأمر أيضاً بأنّ بوّابة الأمن داخل ميادين نفوذ إيران في المنطقة تمرّ عبر طهران، وأنّ ما يرومه العالم من تهدئة في العراق وسوريا ولبنان واليمن له عنوان واحد في طهران ما برح يذكّر به وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان.
لم يكن يسيراً أن تتوصّل 27 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي إلى تشكيل قوة خاصة لحماية الملاحة في البحر الأحمر
طهران سعيدة
تستبشر طهران خيراً في الآليّات العسكرية التي لجأ إليها الأميركيون كما تلك التي أعلنها الأوروبيون لقوّة “اسبيدس” البحريّة التي بدأت مهامّها الإثنين. فكما تردّدُ واشنطن ولندن أنّهما لا تخطّطان لحرب ضدّ الحوثيين في اليمن، وبالتالي لا يمكن للضربات الموضعية أن تتطوّر إلى حرب شاملة، فإنّ جوزيب بوريل، منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، يصف مهمّة القوة البحرية بأنّها “دفاعية”، بمعنى أنّها لن توجّه أيّ ضربات ضدّ مواقع الحوثيين و”لن تشارك في أيّ إجراءات من شأنها تصعيد الموقف في البحر الأحمر”.
ويتساءل المراقبون عمّا يمكن لقواعد الاشتباك الأوروبية الحمائميّة أن تنجزه لردّ أذى الحوثيين عن سفن الملاحة المدنية في وقت لم ينجز شيئاً انخراط الولايات المتحدة وبريطانيا في الاشتباك المباشر مع الميليشيا التي تهدّد بإقفال البحر وممرّاته.
بالمقابل فإنّ الشرعية اليمنية الممثّلة بالمجلس الرئاسي تستغرب لجوء الاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة وبريطانيا إلى آليّات عسكرية تكاد تكون بوليسية لا يمكن لها في المنطق والأدوات أن توفّر للملاحة الدولية الأمان والسلامة الموعودين. كما تستغرب دول البحر الأحمر تعامل الدول الغربية مع الخطر الحوثي على منوال تعاملها مع ظواهر القرصنة التي راجت منطلقةً من الصومال في سنوات سابقة. وكان لافتاً أنّ الحملات البحريّة التي أطلقها الأميركيون والأوروبيون لم تلحظ أنّ الحلّ الحقيقي الجذري والنهائي يكمن في فتح ملفّ اليمن برمّته، ببرّه وبحره، والانخراط جدّياً في جهد دولي جماعي لإيجاد تسوية تنهي حالة الحرب وضعف الدولة في هذا البلد.
يكرّر رئيس المجلس الرئاسي اليمني رشاد العليمي دعوة المجتمع الدولي إلى دعم الشرعية اليمنية من أجل استعادة الدولة لدورها في اليمن بما في ذلك السيطرة على الشواطئ وإيقاف العبث. ويتطلّع، على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي، إلى شراكة مع حلف شمال الأطلسي “الناتو” لمواجهة التهديدات البحرية للحوثيين. غير أنّ العواصم الكبرى بدت غير مستعدّة، وربّما في هذه المرحلة بالذات، للذهاب بعيداً في مقاربة أزمة البحر الأحمر من خلال مقاربة ملفّ اليمن.
تعسكرت منطقة البحر الأحمر وباتت تجوب داخلها الأساطيل الدولية في وقت ترفض فيه الدول المطلّة على البحر الانخراط في أيّ من التحالفات الدولية المقترحة
تتحدّث مصادر بروكسل عن تواصل أوروبي مع إيران لحثّها على التدخّل لدى الحوثيين لوقف هجماتهم. وفي تلك المعلومات ما يكشف آليّة دبلوماسية “متواطئة” تضاف إلى تلك العسكرية “الدفاعية” تقود آليّاً إلى الإقرار بـ “الأمر الواقع” والتعامل مع إيران شريكاً إجبارياً لإنجاح مساعي أوروبا لتحييد البحر الأحمر وممرّاته عن الصراع في غزّة.
بينما تعجز الشرعية اليمنية عن جرّ العالم لاحتضان “قضية اليمن”، تلاحظ الدول الإقليمية المنخرطة في الشأن اليمني أنّ الموقف الغربي ما زال خبيثاً مانعاً لقيام الدولة في اليمن، رادعاً لمحاولات الشرعية إعادة بسط سلطتها على البلاد على منوال ذلك الردع الذي منع معركة الحديدة عام 2018 وفرض اتفاق استوكهولم. وفي اليمن من يرى أنّ ذلك اللبس ما زال مصدره واشنطن التي لم تغيّر مقاربتها اليمنية حتى لو اصطنعت الولايات المتحدة قرار إعادة الحوثيين إلى لوائح الإرهاب.
لمتابعة الكاتب على X: