لماذا فرضت الإمارات قيوداً على أميركا؟

مدة القراءة 7 د

صحيح ما كشفت عنه الصحيفة الإلكترونية “بوليتيكو” بشأن أنّ الإمارات العربية المتحدة تفرض قيوداً على استخدام القواعد الأميركية لضرب الميليشيات التابعة لإيران أو حتى لتنفيذ أعمال عسكرية ضدّ إيران نفسها. لكن ما هو السبب؟ وهل وقع الخلاف؟ أم يتعلّق الأمر بإدارة لسياسة خارجية دقيقة؟

 

فرضت الإمارات قيوداً على استخدام القواعد الأميركية لضرب الميليشيات التابعة لإيران لتحقيق توازن دقيق في علاقات أبوظبي مع كلّ من الولايات المتحدة وإيران. وذلك عبر مثلّث دقيق تتوزّع أضلاعه على الاستقلال الاستراتيجي للدولة، وصون الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، وأيضاً حماية الأمن الإماراتي وموقع الدولة كبيئة آمنة صديقة للأعمال والتجارة واستقطاب رؤوس الأموال والمواهب.

لا ينفصل هذا القرار عن اتجاه إقليمي أوسع تتبنّاه الإمارات نحو تعزيز الدبلوماسية وخفض التصعيد بهدف التخفيف من المواجهات المباشرة وتعزيز السلام في منطقة الخليج، وكذلك عزل المنطقة ما أمكن عن الاضطرابات المتنامية في الشرق الأوسط.

بيد أنّ للقرار أيضاً خصوصيّات تتّصل بالشكوك الإماراتية الكبيرة بموثوقية الولايات المتحدة على المدى الطويل كضامن استراتيجي، وبالأسئلة المتّصلة بشأن عمق وطبيعة شراكة أبوظبي الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.

ليست خافيةً على أحد التغييرات التي تصيب موازين القوى العالمية والإقليمية في ظلّ الحديث الأميركي المستمرّ عن مغادرة الشرق الأوسط لحساب التركيز على إدارة التنافس مع الصين، وتركيز المقدرات الأميركية في الجزء الأقصى من آسيا.

عليه، تفرض ديناميكيّات الأمن الإقليمي المتقلّبة هذه، عناصر إضافية على تصوّرات حلفاء واشنطن لمصالحهم ومرتكزات أمنهم، على نحو قد يفرض إعادة تعريف عموم علاقاتهم الاستراتيجيّة بالآخرين، حلفاء وخصوماً.

فرضت الإمارات قيوداً على استخدام القواعد الأميركية لضرب الميليشيات التابعة لإيران لتحقيق توازن دقيق في علاقات أبوظبي مع كلّ من الولايات المتحدة وإيران

لماذا لا تثق الإمارات بأميركا؟

ساهمت ثلاث قضايا محورية بشكل ملحوظ في تزايد الشعور بعدم الثقة من جانب الإمارات بالحليف الأميركي التاريخي:

أوّلاً، شكّل تطوّر الموقف الأميركي بشأن الصراع في اليمن منعطفاً حاسماً في العلاقات الثنائية. فقد انتقلت واشنطن من موقف إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب الداعم للتحالف الذي تقوده السعودية، والذي يضمّ الإمارات العربية المتحدة، ضدّ ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران، إلى قرار إدارة الرئيس جو بايدن الحدّ من مشاركة الولايات المتحدة في العمليات الهجومية والتنسيق الاستخباري والعمليّاتي ووقف مبيعات الأسلحة ذات الصلة بالصراع.

سوّقت واشنطن لموقفها بأنّه خطوة تهدف إلى تعزيز التوصّل إلى حلّ سلمي ومعالجة الكارثة الإنسانية في اليمن، وذهبت بعيداً وسريعاً في إزالة ميليشيا الحوثي عن لوائح المنظّمات الإرهابية، وتجاهلت كلّ التحذيرات، الإماراتية تحديداً، لتعود وتصنّف الحوثي مرّة أخرى، لكن بعدما ألقت سياسات الولايات المتحدة بظلال الشكّ على استعدادها لدعم حلفائها في الخليج ضدّ النفوذ والعدوان الإيرانيَّين في المنطقة.

ثانياً، أدّى التأخير وعدم اليقين المحيط بتسليم أميركا المقاتلة F-35 إلى الإمارات إلى تفاقم التوتّرات بين البلدين، بعد وعود قاطعة وصلت للمسؤولين الإماراتيّين من إدارة بايدن. بالمعنى العسكري، ترى أبوظبي أنّ اقتناء هذه الطائرات المتطوّرة حجر زاوية في استراتيجيّتها الدفاعية. بيد أنّ الأهمّ من وجهة نظر الإمارات هو ما تمثّله هذه الصفقة من رمزية على مستوى طبيعة التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.

سكوت أميركا عن قصف أبو ظبي

ثالثاً، الردّ الفاتر للولايات المتحدة على الهجمات المباشرة على أبو ظبي في 17 كانون الثاني 2022، تلك المنسوبة إلى الميليشيات المدعومة من إيران في اليمن والعراق، كان مصدراً إضافياً للخلاف وتبديد الثقة بين البلدين. هذا على الرغم من الوجود العسكري الاستراتيجي للولايات المتحدة في الإمارات العربية المتحدة، بما في ذلك قاعدة الظفرة الجوّية. فقد فسّر القادة الإماراتيون النهج الحذر الذي اتّبعته الولايات المتحدة تجاه هذه الاستفزازات بأنّه إحجام عن مواجهة إيران أو وكلائها بشكل مباشر.

من خلال إقامة علاقات أوثق مع القوى العالمية الأخرى تهدف دولة مثل الإمارات إلى التحوّط ضدّ عدم القدرة على التنبّؤ بسياسة الولايات المتحدة

بدا واضحاً أنّ تركيز الولايات المتحدة على خفض التصعيد والانخراط الدبلوماسي مع إيران، يُهمل هواجس الحلفاء بشأن ما يتعرّضون له من تكتيكات الحرب بالوكالة التي تخوضها إيران ضدّهم.

حقيقة الأمر أنّ التصوّر المتفائل بشأن شرق أوسط مزدهر وهادئ، الذي عبّرت عنه واشنطن قبل أسابيع فقط من اندلاع حرب غزّة، على لسان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان يُظهر إلى أيّ مدى يشكّك قادة المنطقة برجاحة الاستراتيجية الأميركية ومستوى انفصالها عن الحقائق على الأرض، وعدم فهمها للديناميكيات المعقّدة للصراعات الإقليمية.

الإمارات

إصرار أميركا على الحوار مع إيران

لا شيء يجسّد هذه الفجوة أكثر من التركيز على أولوية الحوار مع إيران، على الرغم من الموقف العدواني المستمرّ لطهران ودعمها لمجموعات الوكلاء في جميع أنحاء المنطقة.

استسهال التفاؤل بالحوار مع إيران، والمواقف السياسية المتقلّبة لواشنطن، وافتقارها إلى الوضوح الاستراتيجي، كلّها وقائع دفعت حلفاءها بشكل متزايد لاستكشاف علاقات متعدّدة الانحياز. لم يعد الانخراط في معسكرات متقابلة آمناً كما كان الحال خلال الحرب الباردة أو خلال عقد الحرب على الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول.

من خلال إقامة علاقات أوثق مع القوى العالمية الأخرى كالهند والصين والجهات الفاعلة الإقليمية كإسرائيل وتركيا وإيران ومجموعة بريكس، تهدف دولة مثل الإمارات إلى التحوّط ضدّ عدم القدرة على التنبّؤ بسياسة الولايات المتحدة، وتسعى إلى تأمين مصالحها في فضاء سياسي متقلّب. وهي تسعى إلى فعل ذلك عبر شراكات أكثر موثوقية والتزامات أكثر وضوحاً بهدف تلبية احتياجاتها الأمنيّة وطموحاتها الإقليمية، حتى عندما يتضارب هذا الأمر مع الحاجات الأمنيّة الأميركية، كاضطرار الإمارات إلى فرض قيود على الأنشطة العسكرية الأميركية انطلاقاً من أراضيها.

أدّى التأخير وعدم اليقين المحيط بتسليم أميركا المقاتلة F-35 إلى الإمارات إلى تفاقم التوتّرات بين البلدين، بعد وعود قاطعة وصلت للمسؤولين الإماراتيّين من إدارة بايدن

سياسة الإمارات الخارجيّة

تعكس هذه القضايا مجتمعة مستويات عميقة من عدم الثقة، وتدفع نحو المزيد من العمل لإعادة تقويم الشراكة الاستراتيجيّة بين الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة. وهذا ما يفسّر سعي الإمارات إلى قدر أكبر من الاستقلال في سياستها الخارجية واستكشاف ترتيبات أمنيّة جديدة، ونزوعها نحو تطوير علاقات سياسية واقتصادية ودبلوماسية معقّدة، بهدف زيادة قدرة أبوظبي في التعامل مع الديناميكيات العالمية المتغيّرة، لا سيما حالة عدم الوضوح التي تميّز أولويّات الولايات المتحدة.

والحال، فإنّ فرض قيود إماراتية على الأنشطة العسكرية الأميركية ليس ردّ فعل عابر، بل يجسّد تحوّلاً كبيراً في حسابات أبوظبي الاستراتيجية ويشير إلى مستقبل الديناميكيات المتغيّرة في علاقة أميركا بالشرق الأوسط، وذلك في ضوء الحقائق الأمنيّة الجديدة وتحوّل التركيز الأميركي الاستراتيجي نحو الصراع مع الصين.

إقرأ أيضاً: الكويت: نهج الآباء والأجداد يحلّ مجلس الأمة

إنّها لحظة في سياق عصر استراتيجي جديد، سيتطلّب تشكّله سنوات من إعادة تعريف أسس هذه الشراكة، وستتخلّله لحظات صعبة من سوء الفهم والتوتّر.

لمتابعة الكاتب على X:

 NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…