ستمرّ أسابيع كثيرة قبل أن تُنسى “زحطة” وزير الاقتصاد راوول نعمة. في هذه الأيام، حيث يحلّق الدولار في سماء الليرة، ويرمي المستهلك في جحيم المصائب المعيشية، يصير سعر كرتونة البيض حدثاً بحدّ ذاته. حتى الأمس القريب، فضّل “الثوار” مفاوضة وزير الاقتصاد، ومنحه فرصة علّه يمارس صلاحياته و”يقّوي عضلاته” في مواجهة كارتيلات التجار والحدّ من جشعهم وكسر الاحتكارات، قبل رفع منسوب اعتراضهم والمطالبة باستقالته.
مذ تسلّمه الوزارة، يدّعي الوزير أنه يحاول “بالموجود يجود” لممارسة رقابة وزارته على التجار، لكن الانفجار المالي والذي يعبّر عنه الارتفاع الجنوني لسعر الدولار يحولان دون عودة أسعار المواد الغذائية إلى سابق عهدها. لكن التفلّت في الأسواق يحرم الكثيرين من أبسط المقوّمات الغذائية، بعدما صارت تجارة بعض المواد الأساسية أشبه ببورصة مجنونة، لا تعرف إلا الارتفاع.
إقرأ أيضاً: المركزي يربك التحويلات: الدولار 5000 والغذاء سيختفي؟
لكن النصيحتين اللتين تلاهما أمام وفد من “الثوار” واللتين تقضيان بالتوقّف “عن أكل البيض والدجاج لمدّة ثلاثة أيام”، واختيار “الدكنجي غير الغلوجي”، قد تُسجّلان بالخطّ العريض في سجّل مسيرته الوزارية. بدا نعمة كأنه ينافس الجالسين قبالته على كرسي الاعتراض، لا صلاحية بين يديه وقد “سلّم أمره لله”!
وما زاد من سوريالية المشهد، الفيديو الذي أرفق بالزيارة يقول فيه الوزير إنّه “تيس” بمعنى إصراره على تطبيق القوانين وممارسة صلاحياته بلا كلل أو ملل.
فأيٌّ من المشهدين هو الصحيح؟ وما هي حدود صلاحية الوزير؟
تقول مدير عام وزارة الاقتصاد عليا عبّاس إنّ “الوزارة تعمل باللحم الحيّ حيث يقوم مفتشوها البالغ عددهم 100 تقريباً، بالعمل بشكل يومي، على دفعتين، كلّ يوم خمسين مفتشاً، ليغطّوا كامل مساحة الأراضي اللبنانية، فيما مئات الشكاوى تنهال علينا يومياً”.
وتضيف عباس في حديث لـ”أساس” أنّ مسألة الأسعار المرتبطة بالدجاج ومشتقاته “ليست مسؤولية وزارة الاقتصاد لوحدها لأنّها مسؤولية وزارة الزراعة لدخول المزارع والتدقيق فيها وبأكلاف منتوجاتها. ولذا تقتصر مهمتها على التدقيق بالأسعار في المحلات، والتدقيق بين أسعار منتجاتها وأسعار البيع. وهذا ما فعلناه، حيث تبيّن لنا في أحد المتاجر الكبيرة المتخصّصة بمنتجات الدجاج أنّ كلفة سعر كرتونة البيض بات يقارب الـ12 ألف ليرة”!
عباس التي وصلت إلى سنّ التقاعد قبل يومين، تشير إلى أنّ “وزارة الاقتصاد طلبت من وزارة الزراعة وضع لائحة أسعار توجيهية لمنتجات الدجاج كما حصل في المنتجات الزراعية لوضع حدّ لحالة الغليان الحاصلة، مشيرة إلى أنّ الوزير مستاء من هذه الفوضى، اذ إنّ شكاوى متناقضة وصلته خلال الأيام الأخيرة: بعضها يشكو من مضاربة البيض المهرّب من سوريا، لكنه يرفض تخفيض أسعار المنتجات المحلية، والبعض الآخر يشكو من ارتفاع كلفة منتجات الدجاج وتحديداً بسبب العلف المستورد بالدولار”.
من أوجب واجبات الدولة التدخل بحزم، بل إن القانون يفرض عليها التدخل. ومن أوجب واجبات القضاء توقيف المخالفين وإحالتهم إلى المحاكم المختصة وتطبيق أشد العقوبات بحقهم
وفي هذا السياق، يقول نائب رئيس لجنة حماية المستهلك في نقابة المحامين المحامي عيسى النحاس إنّ “المادة 65 من قانون حماية المستهلك تنص على أنّه تقوم مصلحة حماية المستهلك بمراقبة الأسعار إضافة إلى مكافحة الغش والتحقّق من نوعية وسلامة السلع والخدمات وتنفيذ سياسة السلامة الغذائية. وقد نصّت المواد 685 و686 من قانون العقوبات اللبناني على التلاعب بالأسعار وأوقعت عقوبات تصل إلى الحبس أربع سنوات”.
ويشير إلى أنّ “الدولة اللبنانية ليست من أنصار الاقتصاد المتوحش، بل هي دولة تقوم على العدالة الاجتماعية، وعلى تدخل الدولة حماية للطبقات الاجتماعية. ومن أولى واجبات الدولة محاربة الاحتكار وإحالة المخالفين إلى السجون ومراقبة الأسعار. كما أن هذا المبدأ أصبح مُقرّاً عالمياً وفي كلّ دول العالم لأن حماية المستهلك من الواجبات الأساسية للدولة، لا بل نرى معاهدات تؤكد التعاون الدولي لمكافحة الاحتكار. فكيف الحال ببلد مثل لبنان بمساحة صغيرة وبمشاكل اقتصادية ومالية وسياسات استيراد وتصدير خاطئة، ناهيك عن مشاكله في المعابر الحيوية لا سيما بعد الأزمة في سوريا، ويخلص إلى أنّه “من أوجب واجبات الدولة التدخل بحزم، بل إن القانون يفرض عليها التدخل. ومن أوجب واجبات القضاء توقيف المخالفين وإحالتهم إلى المحاكم المختصة وتطبيق أشد العقوبات بحقهم”.
يعني بالنتيجة، للدولة القدرة على ضبط الأسعار ومنع تفلّتها، وهي بحاجة لتحزم قرارها وتوسيع جهازها الرقابي أو حتى الاستعانة بالقوى العسكرية أو بالأجهزة الأمنية لكي تحمي المستهلكين من جشع التجار. لكنّ وزير الاقتصاد اكتفى بلقب “التيس”.