قبل نحو ست سنوات كان عبد الحليم خدّام قد كتب من مذكّراته آلافاً وآلافاً من الصفحات (A4) على ما كشف في مجلس خاص أحد مساعديه في المشروع الضخم.
خدّام نفسه، الذي رحل في زمن الكورونا، لم يكن يخفي في مقابلاته أنّه يروي في تلك المذكّرات كلّ ما عاشه بالوثائق والمحاضر، “لتعرف الأجيال الآتية ما الذي حصل بالضبط”، من وجهة نظره بالطبع.
الأرجح أنّه سيوضح، إذا اعتمد الصدق، أمام التاريخ، بأنّه كان ظلّاً للرئيس حافظ الأسد. لم يقطع خيطاً من دون إذنه، وعمل بإخلاص لتنفيذ سياساته وقراراته. وصفه من عرفوه وتعاملوا معه خلال مرحلة حرب لبنان منذ 1975 بأنّه ذكي ومراوغ ومتكبّر حين يريد، ويعرف أن يفاصل كتاجر عتيق في دمشق، هو المولود في بانياس.
إقرأ أيضاً: عبد الحليم: نار يا خدام نار!
يرى بعضهم أنّ نظرته إلى لبنان كدولة مستقلة كانت “مُهينة” إلى حدٍّ ما، وإن برّرها بالنزاع القديم على خلفية قومية، الذي يعود إلى مرحلة تقسيم النفوذ في المنطقة بين الدول الكبرى، وأدّى إلى نشوء الدول القائمة حتّى اليوم تطبيقاً لاتفاقية “سايكس – بيكو”. كان عبد الحليم يعلن هذا الموقف بلا مراعاة للمشاعر ولا الكرامات عند بعض المفاصل، كتصريحه بعد الصدام مع “الجبهة اللبنانية” إنّ لبنان “إما أن يكون مع سوريا أو لا يكون”.
يصعب الحكم على ما ذهب إليه خدّام وخلفياته، خصوصاً أنّه أخضع كلّ ما جرى لإعادة نظر وكتب مذكّرات ينبغي الاطلاع عليها للفصل بين رأيه ورأي حافظ الأسد، الذي خدمه الرجل بإخلاص، وعن اقتناع، بينما كان ينظر بازدراء إلى بقية عائلة الأسد، من رفعت إلى باسل وماهر، ولا سيما بشار، فضلاً عن آل طلاس، الأب مصطفى وابنه مناف، وجميع الذين صاروا فريق حكم بشار في سوريا، ومن التحقوا وتذلّلوا لهم في لبنان.
ويتضح من شهادات، كما من قراءة الكتاب الذي وضعه خدّام بعنوان “التحالف الإيراني- السوري” (مُختصَر في 400 صفحة فقط)، أنّ خدّام كان يحرص على سُنّيته. لذلك كانت علاقته جيدة بالرئيس حافظ الأسد، كقومي عربي لا يُظهر انتماءه الديني ولا يُعليه في العلن على الأقل، خلافاً لما بدا من ابنه بشار وفريقه. وإن كانت الشدّة والقمع من طباع الحكم عند الرجلين. يمكن في السياق هذا ملاحظة ثلاث هويات عند خدّام: سُنّية كانت تظهر في علاقته بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومن خلفه بالمملكة العربية السعودية، لا سيما أيام الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. هوية سورية كانت تظهر في تعاطيه بملف العلاقات السورية – اللبنانية. وهوية قومية عربية تظهرها سيرته في حزب البعث الذي انتمى إليه مراهقاً بعمر 17 سنة.
يمكن القول أيضاً إنّه عندما صعد بشار إلى الحكم بهوية علوية مئة في المئة تحت لافتة التبعية لإيران، ما عاد خدّام، بهوياته الثلاث، السُنّية والسورية والقومية العربية، قادراً على خدمة حكم عائلة الأسد، فانشقّ عنها. ولكن يجب أن يكون وقع لذلك حدث جلل، وقد تمثّل في اغتيال صديقه الرئيس رفيق الحريري.
علينا انتظار المذكّرات كي نستطيع الحكم بحدّ ما من الإنصاف. لكنّ الموضوعية تقتضي ملاحظة أن خدّام لم يكن من دعاة الديمقراطية ولا حقوق الإنسان، سواء للسوريين أو اللبنانيين في مقابل ديكتاتوريين وبطّاشين. بدليل وقوفه مع نظام الأسد الأب الذي دخل لبنان على دم الزعيم كمال جنبلاط وكثيرين من اللبنانيين والفلسطينيين وسط دمار هائل، ولم يعامل أهالي حمص وحماة بأفضل مما عامل أهالي طرابلس وبيروت وصيدا والجبل. الفارق أنّ حافظ الأسد ما كان يتوقف عند المذهب والمعتقد. كان المطلوب أن تخضع لنظامه، أياً تكن هويتك ومعتقداتك، سُنياً أم درزياً، شيعياً أم مارونياً أو أرثوذكسياً، ليكون عليك الرضا والأمان، أو تعارض فتلقى الأهوال. أما مع إيران، فكان تحالف حافظ الأسد قائماً من الندّ للندّ، خلافاً للتبعية التي صارت إليها العلاقة زمن بشار.
سنقرأ كلّ شيء في مذكّرات خدّام يوماً ما. سيروي على الأرجح أنّه جلس وحيداً على كرسي أبيض في صفّ كراسٍ وُضع أمام جامع محمد الأمين في ساحة الشهداء في بيروت يوم 14 شباط 2005 الحزين، في انتظار وصول جثمان الرئيس الشهيد، ولم يكن أحد يعتقد أن موجاً كبيراً من اللبنانيين سوف يأتي للمشاركة في ذلك اليوم المهيب.
وسط عاصمة البلد الجار لسوريا، الذي لم يتورّع خدّام مراراً عن إظهار الإحتقار له ومعاملة مسؤوليه وشعبه بالقسوة، جلس وحده الرجل السوري، السُنّي الذي نفّذ طوال حياته أوامر العلويين بدقّة. وهناك رآه لبنانيون يبكي صديقه على كرسي بلاستيك بيضاء. سيشهد لاحقاً أمام لجنة التحقيق الدولية أنّ بشار الأسد هدّد مراراً رفيق الحريري، وأنّه هو الذي أمر بقتله، أياً يكن المنفّذون. وسينفي خدّام نفسه من سوريا، وبعدها سيعامله نظام الأسد كمطرود وسيحكم عليه بتهم الخيانة والفساد، في حين أنّه كبقية الحكام العرب، معظمهم إن لم يكن كلهم، ليس الفساد تهمة عليهم بل واقع، ولا الديكتاتورية تهمة مشينة تعيب صورتهم.
سوف يخبرنا خدّام على الأرجح أنّه شكّل مع اللواء حكمت الشهابي ومع الرئيس رفيق الحريري والسعودية، ما يمكن اعتباره “الجناح السنّي” للنفوذ السوري في المنطقة
لعلّ الدليل الأكبرعلى ديكتاتورية خدّام تصدّيه لأجواء “ربيع دمشق- 2001” وتحذيره من “جزأرة” سوريا (نسبة إلى الجزائر) وتلويحه بإنزال الدبابات إلى الشوارع لقمع من يعترض. في حين أنّ بشاراً أبدى تساهلاً إلى حدٍّ ما حيال المطالبين بالحقّ في النقد والتعبير عن الرأي. كان عبد الحليم خدّام، البعثي الحافظ لغة الأسد الأب وطريقة تفكيره، بعد عام واحد على وفاته، هو الذي يهدّد ويتوعّد المنادين بالحرية، قبل أن ينضم إليهم من باريس بعد خمس سنوات. بالطبع بعد فوات أوانه وصلاحيته كشخصية ذات تأثير في سوريا.
في وسط بيروت جلس يبكي، ذلك الرجل الذي صادق وعادى “الجبهة اللبنانية” و”الحركة الوطنية”، المسيحيين والمسلمين، اللبنانيين والفلسطينيين، تبعاً لسياسات الأسد، والذي قيل إنّه بعدما أشرف على تدمير لبنان أصبح الحاكم الفعلي فيه باسم سيّده في دمشق، على ما يُقال اليوم عن حسن نصرالله.
هناك جلس وبكى رجلٌ عرف كيف يجرّ إلى دمشق كلّ طائفة لبنانية، وحدها وحيدةً بيد زعيمها، كي تحتمي وتشكو من الطوائف الأخرى وزعمائها، ومن دون أيّ مشروع مشترك في ما بينها يُمكن أن ينقذ لبنان من براثن نظام الأسد.
سوف يخبرنا خدّام على الأرجح أنّه شكّل مع اللواء حكمت الشهابي ومع الرئيس رفيق الحريري والسعودية، ما يمكن اعتباره “الجناح السنّي” للنفوذ السوري في المنطقة. والواقع أنّ الرئيس الحريري حاول شراء صمت حكام دمشق عن “مشروعه اللبناني”، وفي ذهنه علاقة بين البلدين تشبه ما كانت عليه بين “الجمهورية العربية المتحدة” والجمهوية اللبنانية، زمن الرئيسين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب، ولكن هيهات!
في المقابل، إلتقى في “خطّ بشار الأسد”، برعاية اللواء محمد ناصيف، ما يسمّى بـ”الثنائي الشيعي” (“حركة أمل” و”حزب الله”) مع سياسيين وطامحين مسيحيين، مثل إميل لحود وسليمان فرنجية وإيلي حبيقة وميشال المرّ وإيلي الفرزلي، فضلاً عن طلال أرسلان وآخرين… وكانت تُطلَق على معظم هؤلاء المدعومين من الجناح العلوي صفة “الوزراء المشاكسين” في وجه الرئيس رفيق الحريري. ولطالما حاول تهدئتهم بالتقرب من القيادة الحاكمة المتحكّمة في سوريا ولم ينجح، إلى أن قتلته تلك القيادة الحاكمة نفسها، عبر حلفائها المتمرّسين بأعمال التفجير، بحسب المحكمة الدولية، وجلس عبد الحليم خدّام يبكي، وسط ساحة الشهداء في بيروت، وسط ساحة الحريّة.