في أولى تشكيلات العهد فاحت رائحة السياسة بقوّة. بشهادة قضاة كثر “المحاصصة كانت فاقعة، وإن بدرجة أقل من العهود السابقة مع تسجيل تعيين قضاة معروفين بنظافة الكفّ”. واقعٌ جعل الاعتراضات، إن وجدت، كمكتومة الصوت. “توافقوا فترافقوا بسلام من دون ضجة”، لكنّ مصير بعض قضاة هذه التركيبة كان بائساً بعدما فتح ملف الفساد القضائي على مصراعيه. ولو قدّر له أن يبقى على الزخم نفسه ربما لكانت الفضائح مدوّية أكثر بكثير. وصل الأمر إلى حدّ مراعاة ثغر طائفية باستحداث عشرة مراكز للطائفة الشيعية على مستوى بيروت وجبل لبنان، وحصول مقايضات طائفية بين “تيار المستقبل”و”التيار الوطني الحر”.
إقرأ أيضاً: التشكيلات القضائية “بتقطع”… بقوّة “17 تشرين”
في المناقلات الأولى خلال عهد الرئيس ميشال عون التي شملت نحو 522 قاضياً بعد شغورٍ دام نحو سبع سنوات ومداولات استغرقت أكثر من ستة أشهر سجّل التوافق السياسي هدفاً في مرمى القضاء بإنتاج تركيبة نالت رضى “أولياء الحلَ والربط”، في أوائل سنوات “العهد”.
يستذكر القضاة جيدًا واقعة “إنقاذ” التركيبة بعد الزيارة الشهيرة لوزير العدل السابق سليم جريصاتي إلى رئيس الحكومة سعد الحريري مصطحباً معه المرشح لمركز مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس لأخذ “رضى” بيت الوسط. سبقتها زيارة مماثلة من جريصاتي مصطحباً معه القاضية نازك الخطيب أيضاً لأخذ الغطاء “الحريري” على تعيينها نائب عام استئنافي في جبل لبنان حيث حافظت على المركز نفسه في التشكيلات التي أعدها مجلس القضاء الاعلى.
في تشكيلات العهد الثانية تبدو الصورة مقلوبة. السياسة، بقرار معلن وجريء من مجلس القضاء الأعلى، لم تفرض شروطها. حتّى عامل التوزيع الطائفي غاب تماماً بناءً على رغبة واضحة من المجلس بعدم طرق باب هذا الملف الحسّاس وتأجيله الى مرحلة لاحقة. هي تشكيلات قضائية وليست سياسية، وإن شابتها ظواهر غريبة، ناتجة عن سوء تقدير ربما أو دوافع شخصية أو نصائح أُسديت إلى مجلس القضاء الأعلى لم تكن في محلها أو بسبب قرار بالمعاقبة لامس حتّى ظلم بعض القضاة و”كسر” معنوياتهم. وها هي وزيرة العدل تقدّم ملاحظاتها فتردّ التشكيلات مركزة على احترام وحدة المعايير، وتعيين وجوه جديدة كفوءة، وكسر القيد الطائفي “من أجل قضاء أكثر استقلالية”، كما قالت.
لكن قد يكون أبرز ما فيها أنّها أطاحت بجزء من فريق “قضاة العهد”، وقد يفسّر ذلك مشهد الانقلاب داخل العدلية الذي تقابله صرخات من محامين وقضاة: “مجلس القضاء الأعلى هو المخوّل إصلاح وبتّ التشكيلات. وليس من صلاحية وزير العدل التدخل لمصلحة هذا القاضي أو ذاك”، وإن نفت وزيرة العدل تهمة التدخل.
هكذا، فإنّ الضغوط التي لم تدخل من الباب في مرحلة المداولات ها هي تطلّ برأسها من النافذة بعد قول مجلس القضاء الأعلى كلمته: والنتيجة “ثورة غضب” اجتاحت مقار بعض القضاة في ظاهرة غير مألوفة في تاريخ التشكيلات القضائية. الظلم الذي يكون قد تعرّض له هؤلاء يُواجه من قبل قضاة آخرين بصمت تام ومعالجة هادئة ورصينة في محاولة “للدفاع عن كرامتنا لكن بطريقة لائقة وبالحقّ”.
يمثّل قاضي التحقيق الأول نقولا منصور نموذجاً فاقعاً عن “تمرّد قاضٍ” جرى “نفيه” ليعيّن رئيس محكمة استئناف بعلبك. مواقفه المعلنة من التشكيلات “الزبائنية”، كما وصفها، ومطالبته “باستجواب أعضاء مجلس القضاء الأعلى عن ثرواتهم”، ستعرّضه، وفق مصادر قضائية، للملاحقة الحتمية عبر الادعاء عليه جزائياً وإحالته الى المجلس التأديبي. مع العلم أن منصور لا يزال لديه نحو عشرين عاماً في الخدمة.
منصور هو واحد من القضاة المعروفين بـ “قضاة العهد”، لكنّه من “فرع المعارضة” لمعسكر مدّعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون المحسوبة بدورها على القصر الجمهوري. الاثنان تجاوزاً الخطّ المسموح والمتعارف عليه في مخالفة قرار أعلى سلطة قضائية، بعدما هدّدت عون بعقد مؤتمر صحافي “لشرح كل شيء” عن “التشكيلات الانتقامية”، وشكّلت سابقة غير مألوفة بالتلويح بوضع استقالتها بتصرّف مرجعية سياسية هي رئاسة الجمهورية وليس مجلس القضاء الأعلى.
وفق المعلومات، غادة عون لن تقدم على خطوة الاستقالة بل جلّ ما فعلته مع بعض القضاة المغبونين رفع السقف عالياً جداً، مع العلم أنّ مطلب عون الوحيد هو البقاء في موقعها لما في ذلك من رمزية في سياق معركتها ضد الفساد، كما تقول. مع العلم أنّ القاضي سامر ليشع الذي عيّن مكانها، وإن يتّهمه البعض بميوله القواتية، يعتبر من القضاة النزيهين و”القبضايات” بالحقّ.
التشكيلات صدرت بالإجماع، لكنّ هذا الأمر لا يعني التحجّر في الرأي. وإذا تبيّن أنّ بعض القضاة قد ظلموا فعلاً فتصحيح الخلل وارد جداً
نموذج آخر هو مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس، أحد قضاة العهد “سابقاً”. “الريّس” تقدّم بطلب إنهاء خدماته، لكن حتّى الآن لم يبتّها مجلس القضاء الأعلى بانتظار تشكيل خلف له. وتعيينه ملحقاً في وزارة العدل دفعه إلى “إدارة” أزمة خروجه من السلك على طريقته. فحيث لا تنفع قوة من زكّاه في موقعه الحالي في الدفاع عنه، لجأ الى “تويتر” كمرحلة انتقالية من القضاء إلى السياسة مطلقاً مواقف من الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية، موحياً وكأننا على أبواب انتخابات نيابية وراح يتحدّث عن “زمن الفدرالية الطائفية”، وتسعيرة الدولار المفروضة على المصارف والتي خلقت سوقاً موازية، وأخذ يجود حول تشريح أسباب الانهيار المالي، وسبل استفادة لبنان من انهيار أسعار البورصة والنفط لتشكيل احتياط مالي وتقديم وصفات حلول للحكومة بإطلاق مشروع يؤسّس البلاد على الطاقة الخضراء المتجدّدة بمساعدة صندوق النقد الدولي.
القاضي رولان شرتوني، الذي عُيّن مستشاراً في محكمة جنايات بيروت هو واحد من القضاة المتضرّرين. كان سابقاً في محكمة الأحداث في جبل لبنان ومحكمة جزاء بعبدا ومستشار الهيئة الاتهامية في بعبدا. في التشكيلات الماضية بات معاون مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. تدرّج صعوداً لينتهي نزولاً. ثورة شرتوني الصامتة حتى الآن يقابلها تبرير قضائي لتعيينه مستشاراً، وذلك ربطأ بملف تعرف تفاصيله دائرة تنفيذ كسروان وصولاً إلى صور تضبطه بالجرم المشهود رافعاً لشارة الـ”صح البرتقالية” العائدة للتيار الوطني الحر.
القاضية رولا الحسيني سبقت الجميع بتقديم استقالتها، علماً أنها تقدّمت سلّم التدرج من رئيسة محكمة استئناف الجنح في بيروت إلى رئيسة محكمة جنايات بعبدا. ظاهرة يقف عندها بعض القضاة كون مبرّر استقالتها غير منطقي، لكن برأي هؤلاء، قد تكون هذه القاضية بالتحديد مدخلاً لتعديل على التشكيلات قد يطال أكثر من قاضٍ… إلا إذا أصرّ مجلس القضاء الأعلى على رأيه. وهنا تقول مصادر معنية لـ”أساس”: “التشكيلات صدرت بالإجماع، لكنّ هذا الأمر لا يعني التحجّر في الرأي. وإذا تبيّن أنّ بعض القضاة قد ظلموا فعلاً فتصحيح الخلل وارد جداً”.