هكذا نعيد أهل السُنّة إلى المعادلة الوطنية

مدة القراءة 8 د


لقد كانت كتابة المطالعة في ASAS شديدة التعسر والصعوبة. وكنتُ أقصِدُ من ورائها وضع “كشف حساب” لمعالم مرحلة ومحاضر ضبط لوقائع خمسة عشر عاماً كانت شديدة الهول على لبنان وعلى المنطقة العربية.

لقد اعتزمتُ أن أكتب كشف حسابٍ شامل مع المرحلة لأنّ أحداً ما قام بذلك من قبل، ولأنّ جماعتي من أهل السُنّة كانوا الأكثر تعرضاً للقتل والاضطهاد والتهجير والإخراج من المعادلة ليس في لبنان فقط، بل وفي سورية والعراق أيضاً. وكان رأي كل من تحدثتُ إليهم من المسلمين ومن غيرهم أنّ السُنّة يتعرّضون لمحاولات إبادة سياسية، وأنّ قيادتهم في لبنان وخارجه تتحمل مسوؤلياتٍ كبرى في التخلّي أو التبلّي كما يقول المصريون!

لهذين السببين العام والخاصّ أردْتُ أن أعرض وجهة نظري في الفترة كلّها بعد مقدمةٍ خفيفةٍ عن النظام اللبناني وترتيباته الطائفية والسياسية. وقد رأيتُ بعد صدور المقالة أنني لم أكن مخطئاً، بسبب الكثافة المنقطعة النظير للقراءة، والتعليقات الكثيرة جداً من جانب أصدقاء وإعلاميين وسياسيين ومواطنين، وعرب، كانت في أكثرها إيجابية. وفيها أفكارٌ واقتراحاتٌ وجدتُها مفيدةً في تطوير ما بدأْتُه، وهو يحتاج إلى مزيد عناية.

إقرأ أيضاً: قراءة تاريخية لـ”14 آذار”: خروج أهل السنّة من المعادلة الوطنية! (1/2)

وسأعرض في ما يلي رؤيتي لكيفية إعادة أهل السنّة والوطنيين اللبنانيين إلى المعادلة الوطنية عبر ثلاث نقاط رئيسية، ثالثها وخلاصتها مواجهة حزب الله دون مواربة، انطلاقاً من حكم المحكمة الدولية في أيّار المقبل، وثانيها إسقاط الأوهام حول حكومة حسّان دياب، وأوّلها إعلان وفاة العهد الحالي بدون كورونا.

أول ما أُريد ملاحظته في عمليات المراجعة والتقييم أنّ الإصلاح وسواء أكان جذرياً أو خفيفاً، ورغم قسوة الأزمات، يبقى غير ممكنٍ في هذا العهد. ولا شكَّ أنّ سائر أطراف التسوية ومنهم سعد الحريري أسهموا في الوصول إلى هذا الموقف وهذه الحالة. ولأنّ الضعف والبهدلة اللذَين طرآ على الطبقة السياسية بسبب الانتفاضة والحراك زاداها تهافتاً وتشبثاً في الوقت نفسه، فإنّ الحزب، وبغضّ النظر عن أزمته المستحكمة، صار أكثر قدرةً على التحكم، وتحريك هذا الطرف أو ذاك حسبما يرتئي. فقد ضعف الجميع بسبب الأزمة والحراك، لكن الحزب ما يزال أقوى الضعفاء! ولذلك لا مخرج من الأزمات التي تزداد استحكاماً إلاّ باستمرار الضغط السياسي والشعبي على العهد للمزيد من تصديعه وزعزعته، وفتح خيارات أُخرى للبنانيين دونما انتظارٍ للآجال أو للتطورات الخارجية.

وثاني ما يمكن ملاحظته أنّ حكومة حسّان دياب” متل قلّتها” كما يقول اللبنانيون. وذلك لأنّ سائر أعضاء حكومة الاختصاصيين العظيمة تابعون للثنائي الشيعي وللتيار الوطني الحر وحلفائهما. فهي حكومة اللون الواحد. وقد استبشرت خيراً على سبيل المثال بوزير الخارجية في الحكومة العتيدة، لكنْ سرعان ما لاحظتُ أنه أطوع لجبران باسيل من بنانه! أما رئيس الحكومة فلضعفه علتان: الضعف العام الذي نزل برئاسة الحكومة في الفترة الأخيرة بسبب الدخول في التسوية، وبسبب تفويتات سعد الحريري.  وأما العلةُ الأُخرى فلأنه في الأصل ما كان من أتباع الثنائي الشيعي تماماً رغم مجاملاته المستمرة للمقاومة. وإنما المقاومون هم الذي أتَوا به وفرضوه على الآخرين، فضاع بين رعاية جميلهم، وبين إرضاء باسيل وإرضاء بري، وبين اللجوء إلى الحزب عندما يتعذر عليه التوفيق بين الرغبات الشرهة والمتعارضة.

ما من مسألة صغُرت أو كبُرت إلاّ وتُعجن بجهدٍ وصَخَب وجعجعة ثم توضع على النار ثم يأتي من يرمي على النار ماءً وتذهب الجهود هدراً، أو يقال إنّ فخامة الرئيس أمر بكذا أو منع كذا أو تصدّق على اللبنانيين بهذه الهبة أو تلك

وخلال الشهرين الماضيين مرت الحكومة بقطوعات عدّة فرضها عليها هذا الطرف أو ذاك دونما مقاومة تُذكر من دولة الرئيس، مثل عدم دفع اليوروبوند، ومثل قصة الكابيتال كونترول، ومثل القرارات المتناقضة في مواجهة المصارف، ومثل التشكيلات القضائية، والتعيينات في البنك المركزي، ومطالبة السجناء الإسلاميين بالعفو العام، والميوعة فيما صار يُعرف بخطط الإصلاح، والميوعة في تقرير طرائق التفاوض مع الدائنين الخارجيين، ودائني المصارف. ما من مسألة صغُرت أو كبُرت إلاّ وتُعجن بجهدٍ وصَخَب وجعجعة ثم توضع على النار ثم يأتي من يرمي على النار ماءً وتذهب الجهود هدراً، أو يقال إنّ فخامة الرئيس أمر بكذا أو منع كذا أو تصدّق على اللبنانيين بهذه الهبة أو تلك!

ولنتأملْ قصة العميل الإسرائيلي عامر فاخوري، الأميركي الجنسية، الذي أطلقت المحكمة العسكرية اللبنانية سراحه. وأصحاب السلطة في ذلك هم: رئيس الجمهورية وقائد الجيش والرئيس نبيه برّي باعتبار رئيس المحكمة من مُحازبيه. والثلاثة هم الذين أطلقوه، وحزب الله لم يعترض بعد  التشاور. أمّا الفضيحة فهي عدم معرفة رئيس الحكومة، وعدم معرفة وزيرة الدفاع. وقد أصدرا بيانين في استنكار ذلك!

وحده وزير الصحة، وهو عضوٌ في حزب الله، يملك الآن حرية المجانين بسبب أزمة كورونا. وإنما على أي حال رئيس الحكومة هو الأقلّ تأثيراً على الوزراء وليس لأنّ الوزراء ينفّذون أوامر وهو لا يأمر، بل لأنّه صار رهينةً لدى الجميع. ولا أعرف جهةً عربيةً أو دوليةً اعتبرته جديراً بالتواصل والتشاور والاحترام. ولذلك لما سألوني في”صوت لبنان” عن رئيس الحكومة الحالي لم أعرف ماذا أقول، ثم خطر لي تشبيهٌ طريف، قلت: ليس له وجهٌ ولا ظلّ! ولذلك لا رأْي لي حتى تتكوَّنَ له صورة و”معالم”!

إقرأ أيضاً: قراءة تاريخية لـ”14 آذار”: الحشد لقرار المحكمة الدولية وإسقاط العهد القوي (2/2)

وثالث ما أريد قوله حديثٌ في الاحتمالات والبدائل. قلت في مقالة “خروج أهل السنة من المعادلة الوطنية” إنّ هناك مناسبة هامة لا ينبغي تفويتُها كما فوّت سعد الحريري الكثير من قبل، وأعني ما أعلنته المحكمة الدولية الخاصة عن اعتزامها إصدار الحكم في قضية مقتل الرئيس رفيق الحريري في منتصف شهر أيار المقبل. وقد اعتبرتُ أنه يجب تحويل المناسبة إلى حركة واحتجاج سياسي وشعبي لإدانة حزب الله باعتباره حزب سلاح وخارجاً على الشرعية الوطنية والدولية ومرتكباً لجرائم سياسية. وبوصفه كذلك لا يجوز أن يبقى مسيطراً على الشأن الوطني والسياسي، وعلةً مهمةً في الحصار المضروب على لبنان. وقلت إنّ لبنان كله والعرب أصيبوا برفيق الحريري، لكنّ أهل السنة ينبغي أن  يتصدروا الموجة التي يقودونها مع سائر الوطنيين كما حدث في 14 آذار عام 2005. ويكون الهدف العودة إلى الثوابت: وثيقة الوفاق الوطني والدستور، وإحقاق الشرعيات الثلاث: الوطنية والعربية والدولية، بنزع سلاح الحزب، وإنفاذ القرارات الدولية وبخاصة 1559 و1701، والاقتران بين إجراء الانتخابات المبكرة وإسقاط العهد الفاشل والفاسد والذي شارك الحزبَ في إحداث الانهيار الذي نزل بالدولة والوطن  والشعب، وعادى العرب، والمجتمع الدولي، وأدخل البلاد والعباد في الكورونتين: الفيروس الإيراني الطائفي والمذهبي، فيروس الميليشيات والسلاح، والفيروس الوبائي!

لا أدري لماذا أشعر أنّه حتّى في هذه الظروف ما يزال هناك لبنانيون كثيرون يفكرون بأنها: غُمةٌ وتنجلي! الغُمة لن تنجلي إلاّ إذا ذهب أو طُرد المسؤولون عنها وكلّن يعني كلّن

هل يمكن القيامُ بذلك إسلامياً ووطنياً، رغم تعب اللبنانيين، والمخاوف من السلاح والاغتيالات والتوترات الطائفية والتي نفّذها الحزب وقرينه من قبل؟

إمكانيات التعبير والسعي السياسي والمدني للتغيير ممكنة وتستطيع أن تكون مؤثرة. لكنّ النهوض الناجح لا بد أن يكون وطنياً وليس ذا أهدافٍ وطنيةٍ فقط. ثم إنّه إلى جانب الأطراف السياسية والمدنية لا بد من التفكير بمسارات الحراك الشبابي الكبير والمعارض للعهد وللحكومة وللمجلس النيابي، والذي انتهى إلى مجموعات صغيرة إما تقطع الطرقات، أو يستخدمها  الحزب في الوقوف أمام جمعية المصارف والبنك المركزي!

لا بد من المراجعات، ولا بد من التوليف والتنسيق والتحالفات، ولا بد أن نعترف بالافتراق بين ما نفكر به نحن الاستقلاليين لجهة العودة لثوابت التأسيس، وللشرعية الدستورية، وما يفكر به الشباب المؤدلج، والفقراء الهائمون على وجوههم في الشوارع قبل كورونا وبعدها!  

لا أدري لماذا أشعر أنّه حتّى في هذه الظروف ما يزال هناك لبنانيون كثيرون يفكرون بأنها: غُمةٌ وتنجلي! الغُمة لن تنجلي إلاّ إذا ذهب أو طُرد المسؤولون عنها وكلّن يعني كلّن!

لا يكتمل إنصاف رفيق الحريري بحكم المحكمة، بل لا بدّ من أن يقترن الإنصاف بالعدالة، لإخراج الوطن من المأزق: مأزق العهد والتسوية والطبقة السياسية. فلننهض جميعاً لتحقيق ذلك. 

 

لقراء مقالة المفكّر رضوان السيّد “قراءة تاريخية لـ”14 آذار”: خروج أهل السنّة من المعادلة الوطنية!”، 
ولقراءة النقاش الذي أثارته مقالة الدكتور رضوان السيد إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…