يَفرض فيروس كورونا سَطوته على كل شيء تقريباً بما في ذلك التشكيلات القضائية النائمة في “جارور” وزيرة العدل ماري كلود نجم، منذ 17 آذار الحالي. يقول أحد القضاة البارزين لـ”أساس”: “لولا كارثة كورونا لأخذ النقاش السياسي والقضائي مداه في ملفّ التشكيلات بالصيغة التي أعدّها مجلس القضاء الأعلى، ومن ثمّ ردّها بعد تقديم ملاحظات وزيرة العدل. مع ذلك، لن يكون منطقيًّا أن تُبقي نجم المشروع طويلًا في الأدراج لما في ذلك من انعكاسات سلبية على الجسم القضائي برمّته”.
في الوقائع، بدأت دائرة الاعتراض لدى القضاة تتّسع أكثر منذ ردّ مجلس القضاء التشكيلات “زيّ ما هيّي”. لن يكون الأمر سابقة بالطبع طالما أنّ وزراء عدلٍ سبقوا نجم في “تجميد” التشكيلات. لكن مع “الهبّة” الإصلاحية التي أرادها مجلس القضاء الأعلى يبدو وكأنّ السلطة السياسية فَرملت اندفاعته. طبعًا هي وجهة نظر في مقابل وجهة نظر أخرى تمامًا، تستند على وجود ثغرٍ فاقعة في التشكيلات وسوء ترجمة لوحدة المعايير ظلمت قضاة أو قدّمت قضاة على حساب آخرين من دون معيار منطقي!
إقرأ أيضاً: لا تعيينات في مجلس الوزراء اليوم
وكان كتاب وزيرة العدل قد تضمّن ملاحظات ركّزت على عدم مراعاة الشمولية في المعايير الموضوعية خصوصاً في النيابات العامة ودوائر التحقيق، وتماهياً مع نبض الشارع طالبت بتقديم الوجوه الجديدة في السلك على تلك “المجرّبة”، وتمنّت تجاوز المعيار الطائفي، وسلّطت الضوء على القضاة العدليين في المحاكم العسكرية حيث أشارت بالأصبع إلى عدم أخذ مجلس القضاء الأعلى بنصّ المادة 13 من قانون القضاء العسكري، والتي تعدّ بالنسبة إلى القضاة تدخلاً صريحاً من جانب السلطة السياسية في عمل القضاء. والمادّة تنصّ على أنّ “القضاة العدليين لدى المحاكم العسكرية يعيّنون من قضاة الملاك العدلي بمرسوم بناءً على اقتراح وزيرَي العدل والدفاع الوطني وبعد موافقة مجلس القضاء الأعلى”.
وكان واضحاً التجاهل التام من جانب مجلس القضاء الأعلى لهذه “الملاحظة” حين “دَرَس” ملاحظات وزيرة العدل، وإلاّ لكان بادر إلى الطلب من وزيريتي العدل والدفاع اقتراح أسماء هؤلاء القضاة. وفي حال توقيع الوزيرة نجم على مرسوم التشكيلات، فإنّ من الصعب عدم توقيع وزيرة الدفاع عليها. إذ سيشكّل رفضها سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء.
وبالتالي، فإنّ المصير المتوقّع للتشكيلات يتأرجح بين خيارين:
الأول: عدم التوقيع ما يعني فتح الباب على أزمة كبيرة.
الثاني: توقيع المرسوم من جانب وزيرة العدل، ثم نيله تواقيع وزيري الدفاع والمالية ورئيس الحكومة وصولاً إلى رئيس الجمهورية.
وفي هذا السياق، يؤكّد مطلعون أنّ الرئيس ميشال عون متشبّث برأيه بعدم التوقيع على التشكيلات بصيغتها الحالية. وأنّ ثمّة لائحة بأسماء قضاة ومواقعهم يعتبر عون أنّ وحدة المعايير لم تشملهم، فظلموا أو نالوا حظوة التعيين في مواقع هامة خلافًا للمعايير الموضوعة.
وفي حال رفض رئيس الجمهورية التوقيع فذلك يعني استحالة ردّها مجددًا إلى مجلس القضاء الأعلى لإعادة درسها، ما يعني نسف التشكيلة من أساسها!
وتفيد المعلومات أنّ عون أعرب عن امتعاضه من عدم التزام رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود بما وعده به، لجهة إطلاعه على النسخة الأخيرة المنقّحة للتشكيلات قبل إحالتها إلى وزيرة العدل، مؤكدًا أنّه هو “صاحب صلاحية في النقاش في المبادئ والمعايير التي حكمت هذه التشكيلات، ولا أحمل قلم التوقيع فقط”.
وعلى ذلك، فقد تفاجأ الرئيس عون مثلًا ببعض الأسماء، كما في حالة تعيين القاضي سامر ليشع مدعيًا عامًا لجبل لبنان بعد الاستغناء عن اسم القاضي إيلي الحلو. وفي محيط عون من يرى أنّه تمّ الاقتصاص مثلًا من القاضيين رولان الشرتوني (معاون مفوض الحكومة الذي عيّن مستشارًا في محكمة جنايات بيروت) والقاضي مارسيل باسيل (قاضي التحقيق العسكري الذي عيّن مستشارًا في محكمة الجنايات). فالشرتوني، وبسبب إحالته سابقًا الى التفتيش، تمّ تعيينه مستشارًا، فيما لم يتمّ التعامل مع قضاة آخرين بالمعيار نفسه. والقاضي باسيل الذي أخذ عليه مجلس القضاء الأعلى أنّه “مكسور” بالأحكام (أيّ تأخير بتّه بأحكام). في المقابل يعيّن القاضي حبيب رزق الله، القريب جدًا من القاضي عبود، رئيس أوّل لمحاكم بيروت، وهو بدوره “مكسور بالأحكام”. وقاضي التحقيق ساندرا مهتار “المكسورة الأحكام” أيضاً تُعيّن رئيسة الهيئة الاتهامية في جبل لبنان… وأيضاً، ثمّة قضاة لم يحالوا يومًا إلى التفتيش وإنتاجيتهم وسيرتهم القضائية معروفة، ومع ذلك “هُمّشوا” في التشكيلات “بشكل فاضح”.
التوصّل إلى تشكيلات مثالية أمرٌ غير ممكن، لأنّ الأخطاء وسوء التقدير واردة، وهي تشوب هذه التشكيلات في جزء بسيط منها
لا أحد يتوقّع نشوء أزمة شبيهة بتلك التي انفجرت عام 2006 بين الرئيس السابق إميل لحود من جهة ومجلس القضاء الأعلى ووزير العدل الأسبق شارل رزق من جهة أخرى، بسبب رفض لحّود يومها التوقيع عل تشكيلات ضربت، برأيه آنذاك، التوازن الطائفي والمذهبي. وقد عمد رزق إلى نشر المرسوم في الجريدة الرسمية بعد استكمال التواقيع عليه، باستثناء توقيع رئيس الجمهورية، لكن ذلك لم يؤدّ سوى إلى تشدّد أكبر من جانب لحود جمّد التشكيلات لفترة طويلة.
وتقول مصادر مطلعة على أزمة التشكيلات إنّ “ملاحظات وزيرة العدل هي إصلاحية بجانب منها وغير ممكنة التطبيق في الظرف الحالي، من جانب آخر، كما في حالة التغيير الطائفي في بعض المواقع”.
وترى المصادر أنّ “التوصّل إلى تشكيلات مثالية أمرٌ غير ممكن، لأنّ الأخطاء وسوء التقدير واردة، وهي تشوب هذه التشكيلات في جزء بسيط منها”، مشيرة إلى أنّ “أهمّ ملف قضائي فُتح على مصراعيه العام الفائت وهو ملف الفساد القضائي بدا أنّ بعض القضاة ممّن كان لهم بصمتهم الواضحة فيه لم ينالوا حقّهم في التشكيلات ما شكّل رسالة سلبية لهم”. وحتّى بالنسبة إلى العميل عامر الفاخوري، تضيف المصادر، “فإن بعض القضاة ممّن تساهلوا في إدارة هذا الملف عُيّنوا في مراكز متقدّمة”.
هكذا، ورغم الكورونا والإفلاس والانهيار الاجتماعي، يبقى هذا الملفّ كأحد وجوه الصراع المستمرّ على التعيينات بين القوى السياسية، في الحكومة وخارجها، كأنّ شيئا لم يحدث في لبنان. وهو يشبه ما جرى في بند التعيينات الذي سحب من مجلس الوزراء.