بين المأساة التي يعيشها البلد حالياً وتصالح اللبنانيين مع الواقع والمنطق، هناك حقائق مؤلمة لا مفرّ من الاعتراف بها وقبولها بعيداً عن المزايدات والشعارات التي لا تُطعم خبزاً ولا تبني وطناً. في مقدّم هذه الحقائق أنّ لبنان لم يخسر أرضاً في العام 1967 لأنّه لم يشارك في حرب كانت نتائجها معروفة سلفاً لدى الذين يمتلكون حدّا أدنى من الواقعية. كان رئيس الجمهورية في لبنان، وقتذاك، رجلاً مثقّفاً اسمه شارل حلو.
كان الماروني شارل حلو رجلاً عاقلاً، لم يستطع المحافظة على عقلانيته ولا على فكره الصائب عندما اضطر إلى القبول بتوقيع اتفاق القاهرة في تشرين الثاني 1969 تحت ضغط الشريك المسلم، ممثّلاً برئيس الحكومة رشيد كرامي تحديداً. لم يدرك الشريك المسلم إلّا متأخراً معنى توقيع مثل هذا الاتفاق الذي عنى بين ما عناه تخلّي لبنان عن سيادته على جزء من أرضه لمصلحة منظّمة التحرير الفلسطينية.
إقرأ أيضاً: الهرب من الحقيقة… في بيروت وطهران
ما جعل شارل حلو يوافق على اتفاق القاهرة أيضاً، على الرغم من عدم اقتناعه به وإدراكه لمدى خطورته، قبول الزعماء الموارنة به. كان ريمون إدّه الاستثناء الوحيد. كان ريمون ادّه كذلك لأنّه لم يعتبر رئاسة الجمهورية هدفاً بحدّ ذاته، على خلاف الزعماء الآخرين، بمن في ذلك الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل الذي أراد التخلّص في الوقت ذاته من رأي سائد بأنّه “المسيحي المتعصّب” الذي لا يستطيع التفاهم مع المسلمين.
ما لم يفهمه اللبنانيون، في معظمهم، في 1969، بدأوا في فهمه في 2005. كانت تلك سنة اغتيال رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان تحت شعار “لبنان أوّلاً”. ما ألغى ذلك الإنجاز وحال دون البناء عليه، تمكّن “حزب الله” من ملء الفراغ الأمني والسياسي الناجم عن هذا الانسحاب العسكري والأمني السوري. وهو فعل ذلك لمصلحة إيران.
من 1969 الى 2005، ثم إلى 2020، لا يزال لبنان عاجزاً عن حماية مصالحه والدفاع عنها في منطقة تشهد تغييرات في العمق.
كانت ميزة لبنان في الماضي تختزل بالقدرة على التأقلم مع التغييرات ومحاولة الحدّ من انعكاساتها عليه. كان هناك عاملان يساعدانه في ذلك. كان المجتمع الدولي، على رأسه أميركا، حريصاً على حدّ أدنى من الاستقرار في البلد. كذلك، كان هناك اهتمام عربي قوي بلبنان. في 2020، لا وجود للدعم الدولي أو للاهتمام العربي. هناك انهيار لبناني على كلّ صعيد وفي كلّ مجال، خصوصاً بعد احتجاز أموال اللبنانيين والعرب والأجانب الموجودة في المصارف اللبنانية.
ليس ما يشير إلى أنّ النظام الإيراني قادر على تجاوز أزمة كورونا. الشيء الوحيد الأكيد أنّ إيران ما بعد الأزمة لن تكون كما قبلها
يزداد هذا الانهيار مع انكشاف إيران في ظلّ أزمة وباء كورونا. أكّدت هذه الأزمة عجز نظامها عن التعاطي مع كورونا. الأخطر من ذلك كلّه، أنّ لبنان يدفع بدوره ثمن هذا الانكشاف بعدما أصبحت أزمته مركّبة وعزل نفسه عربياً ودولياً. إنّها أزمة سياسية واقتصادية وقيادة سياسية في آن. يتبيّن يوماً بعد يوم كم أنّ هذه القيادة السياسية مرتبطة بإيران ورغباتها.
لا وجود لمصلحة لبنانية في هذا الارتباط الذي لا تستطيع القيادة السياسية الحالية الخروج منه للأسف الشديد. يدلّ على ذلك عجز هذه القيادة عن الاعتراف بأنّ لبنان يتجه نحو كارثة بخطى سريعة. هذه الخطى سريعة إلى درجة ليس معروفاً هل ينهار لبنان قبل إيران؟
ليس ما يشير إلى أنّ النظام الإيراني قادر على تجاوز أزمة كورونا. الشيء الوحيد الأكيد أنّ إيران ما بعد الأزمة لن تكون كما قبلها. حتّى لو بقي النظام الحالي، لن يكون هناك مفرّ من تغيير عميق. إيران التي عرفناها انتهت، مع مشروعها التوسّعي. بين العقوبات الأميركية وكورونا، انهار الاقتصاد الايراني. كيف سيؤثّر ذلك في لبنان حيث صار “حزب الله” يقرّر من هو رئيس الجمهورية الماروني ومن هو رئيس مجلس الوزراء السنّي.
يوجد بالفعل مأزق لبناني. يعبّر عن هذا المأزق استمرار استيراد كورونا من إيران عن طريق طائرات شحن ما زالت تهبط في مطار بيروت.
من أين نبدأ؟
الجواب أنّ على لبنان استعادة لغة المنطق، ولو القليل من المنطق. لغة تفرض شجاعة الاعتراف بأنّه لم يخسر أرضاً في حرب 1967، وأنّ مصائبه بدأت مع اتفاق القاهرة وشعاراته الفارغة وبنوده الخطيرة، التي صارت ملك إيران، والتي لا تزال تتحكّم بالمشهد السياسي اللبناني.
في غياب القدرة على الاعتراف بأنّ تحرير فلسطين انطلاقاً من لبنان كلام مضحك، وأنّ شعار “طريق القدس” ليس سوى تغطية لتحقيق انتصارات على لبنان وشعبه، سيستمرّ النزيف اللبناني إلى يوم لن تعود فيه دماء قابلة للامتصاص من جسد الوطن الصغير…