من ثمار الثورة: العطاء السرّي

مدة القراءة 3 د


عماد الدين رائف

تلك الخمسينية في ساحة التل في “عروس الثورة”، تشبه ذلك الستيني الذي يجول في زحمة العابرين في بوابة صور، والعشريني ذي الابتسامة الدائمة في أزقة الطريق الجديدة. لا يعرفون بعضهم بعضاً، فالمصادفة وحدها ألقت بهم أمام ناظري، لكنهم يتشاركون في ما بينهم سراً إنسانياً، ينتقون من بين الناس من يمدون إليهم يد المساعدة بصمت.

بعض المال، بعض الطعام، بعض الدواء، بعض الدفء… لا يريدون شيئًا في المقابل، لا ثناء ولا شكورًا. يشعرون أنّ هذا العطاء القليل يقرّبهم خطوة من المواطنة، نحو الوطن الحلم. يشعرون بأنهم ممتنون لمن يقدمون إليه يداً وعوناً، لا العكس.

إقرأ أيضاً: ساحة رياض الصلح: هنا بدأت الحكاية

اليوم، يعدنا أتفه ساسة بالمجاعة وبسنوات عجاف نتيجة ما اقترفوه فينا، وتجتهد مطابعهم في وصم صناديق كرتونية بشعارات أحزابهم وجمعياتهم، لتحشر فيها الإعاشة التقليدية وفق منطق الشحادة الممنهجة، فتصل إلى المريدين، الهاتفين بالروح وبالدم.

فقد اعتاد الساسة أن يشتروا بها ذمم الرعايا وصمتهم في المناسبات الدينية والمواسم الانتخابية، وها هم اليوم أمام موسم الدولار وذلّ المصارف، فيضمنون عدم تسرب العائلات المسحوقة نحو المطالبة بحقوقها المشروعة بالعيش الكريم، أما من يخرج عن طوعهم ويتفلت من قبضة سلطانهم فله التخوين العلني، والويل والثبور في الدنيا والآخرة.

وما أكثر الصناديق المعدنية الملونة بألوان أصحابها، تنتصب فوق أعمدة على الأرصفة تعيق حركة المارة “تستنزل الرزق” وتعد بجنات النعيم، أو في المحال التجارية تتزاحم أفقياً وعمودياً تخلط بين “فقراء ومساكين ومعوقين”، وما أكثر الشعارات والنصوص المقدسة التي تتزاحم فوق طلائها المقاوم للزمن، وما أكثر الأقفال والجنازير عليها وهي تحول بين المواطن المحتاج وإشباع حاجته في أبسط مقومات العيش، إذ لا سبيل إلى خيرها إلا عبر زواريب أرباب الطوائف.

لكن مهلاً، اليوم أيضاً، يجول مواطنون مجهولون ألقت ثورة 17 تشرين في قلوبهم قبساً من نور المواطنة، فألقوا على عواتقهم إحدى أخطر المهمات في دولة الطوائف، يقومون بسرية تامة بتسديد مبالغ عن الفقراء دوّنت في دفاتر الديون في دكاكين السمانة، والصيدليات، ومحال الخضار، في كل مدن لبنان وبلداته وقراه، بغض النظر عن منطقة المدين وطائفته ومذهبه وجنسه.

فقراء لن يقفوا مذلولين مهانين على باب أمير الزاروب كي يحصلوا على صدقة، فقد سدّ دينهم عنهم بلا منّة. آخرون يجمعون ما يستطيعون إليه سبيلاً من الغذاء والدواء والألبسة.. ويسعون لإيصالها إلى المحتاجين إليها عبر الثوار والمنتفضين، عبر الجمعيات المدنية اللاطائفية، عبر مبادرات فردية لمجموعات في أحياء المدن والبلدات.

إنها بوادر التضامن الحقيقي المؤسس لقيامة الوطن، إنها من ثمار ثورة لا يمكن لأحد من أمراء الحروب أن ينتزعها من السائرين على طريق المواطنة.

مواضيع ذات صلة

17 تشرين: خروج الشباب على الولاء للزعماء

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

سوريّة – كرديّة: 17 تشرين جعلتني “لبنانية”

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

بوجه من انتفضوا: المناهبة”(*) الخماسيّة؟ (2)

تحلّ الذكرى السنوية الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجوديّة متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في الحلقة السادسة ينشر “أساس” مقتطفات من فصل…

في انتظار تجدّد “يوفوريا” 17 تشرين

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…