ماذا تريد قطر؟

مدة القراءة 8 د


هل تحصل المصالحة مع قطر؟ هل تشمل المصالحة كل أطراف المقاطعة، أي المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات والبحرين، أم تظلّ في إطار ثنائي بين المملكة وقطر؟ وإن حصلت المصالحة في كانون الثاني المقبل، هل تستمرّ أم سرعان ما تلاقي مصير المصالحات السابقة والتي انهارت آخرها عام 2017؟

كثرة الأسئلة دليل على هشاشة المحاولة الأحدث لرأب الصدع بين قطر ودول المقاطعة، ومؤشر الى عمق الشكوك، وجسامة الملفات التى أوصلت العلاقات مع الدوحة إلى ما وصلت إليه. هذه المناخات عكستها تغريدة لوزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية أنور قرقاش قال فيها: “نتطلّع إلى قمة ناجحة في الرياض نبدأ معها مرحلة تعزيز الحوار الخليجي. إدارة المملكة العربية السعودية الشقيقة لهذا الملفّ موضع ثقة وتفاؤل، ومن الرياض عاصمة القرار الخليجي نخطو بمشيئة الله خطوات تعزيز الحوار الخليجي تجاه المستقبل”!

أي أنّنا لا نزال في مرحلة العمل على “تعزيز الحوار” وترقب النتائج في “المستقبل”.

في الاتجاه نفسه ذهب بيان وزير الخارجية البحريني الدكتور عبد اللطيف الزياني الذي قال فيه: «مملكة البحرين تتطلّع إلى قمة تؤدي إلى مرحلة تعزيز الحوار الخليجي تحقيقاً للأهداف المرجوّة في المستقبل». مرّة أخرى الحديث عن جهود لتعزيز الحوار لا اختتامه الى خلاصات وقرارات، أما هذه الخلاصات والقرارات فمتروكة “للمستقبل”!

لا يشك عاقل بأنّ المصالحة مكسب لكلّ أطراف الأزمة، لو تيسّرت مصالحة حقيقية وبشروط تعالج جذور المشكلة، بحيث لا تكون المصالحة خياراً صائباً إنّما لأسباب خاطئة. أو أن تكون المصالحة مجرّد انتحال صفة تمهّد لمزيد من الاشتباك بمثل ما تكون التوبة أحيانًا مبرّراً لمزيد من المعاصي.

ماذا تريد قطر؟

هذا السؤال الأساس الذي من دونه لا يُعرف ما إذا كنّا أمام صفحة جديدة تُفتح في العلاقة مع قطر أم أمام صفحة إضافية في كتاب النزاع نفسه، والتي سرعان ما سيملأها حبر الخلاف والتصعيد.

لا يشك عاقل بأنّ المصالحة مكسب لكلّ أطراف الأزمة، لو تيسّرت مصالحة حقيقية وبشروط تعالج جذور المشكلة، بحيث لا تكون المصالحة خياراً صائباً إنّما لأسباب خاطئة

النصّ القطري المعلن حول ما تريده الدوحة، جاء شديد الوضوح وبصوت وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم، في خيمة الراحل معمر القذافي، وهو السعي والتآمر لتقسيم المملكة العربية السعودية، بما يمهّد لتوازنات جديدة في الخليج بين دول وكيانات صغيرة تكون الصدارة فيها لدولة قطر، بثرائها الخرافي، وحيوية قيادتها السياسية، وخبرتها على المسرح الدولي.  والأسباب كثيرة:

1- قطر هي الدولة الأغنى في العالم من حيث نصيب الفرد من الدخل القومي.

2- صاحبة ثالث أكبر احتياط من الغاز الطبيعي في العالم، ما يجعلها شريكاً استراتيجياً لأوروبا وأميركا والصين بما يفوق حجمها الجغرافي والسكاني.

3- تستضيف قطر قاعدة العديد العسكرية الأميركية، على بعد 30 كم جنوب غرب العاصمة الدوحة، حيث يتمركز نحو 13 ألف جندي أميركي، أغلبهم من سلاح الجوّ، وتمثّل أكبر وجود عسكري لها في الشرق الأوسط، ومنصّةً استراتيجيةً في الحرب ضدّ تنظيمات “داعش” والقاعدة ومتفرّعاتها في سوريا والعراق وأفغانستان.

4- تدير شبكة متناقضة من العلاقات الاستراتيجية مع أطراف عدد من نزاعات الشرق الأوسط الأكثر خطورة، ما يضعها في موقع الوسيط، ولو الاضطراري، بين: إيران وأميركا، وإسرائيل وتركيا، وأميركا وطالبان، وطالبان والحكومة الأفغانية، وغيرها الكثير من الملفات التي تتيح لها أدواراً وحماياتٍ لا حصر لها.

5- تملك ترسانة إعلامية متكاملة، عابرة للّغات، تتصدّرها قناة الجزيرة، توظّفها في صياغة الرأي العام وتحفيز المشاعر عند قطاعات واسعة من الجمهور العربي والإسلامي. 

لا تحتمل دولة صغيرة بهذه الإمكانات وبالشخصية المتفردة لـ”نظام الحمدين”، وشهية الدوحة بأميرها الحالي والسابق لأدوار زعاماتية كبرى، أن تبقى أسيرة صغر الحجم السكاني وضيق الرقعة الجغرافية في مقابل “القارة” السعودية المجاورة. ولئن كان التوسّع الذاتي غير ممكن عملياً، بات تصغير الآخر هو البديل الموضوعي لتجاوز عقدة الجغرافيا وفتح أبواب التاريخ..

تدير قطر شبكة متناقضة من العلاقات الاستراتيجية مع أطراف عدد من نزاعات الشرق الأوسط الأكثر خطورة، ما يضعها في موقع الوسيط، ولو الاضطراري، بين: إيران وأميركا، وإسرائيل وتركيا، وأميركا وطالبان، وطالبان والحكومة الأفغانية

هذا ليس نبشاً في أرشيف مواد النزاع وأسباب الفرقة، بل هو تحديد موضوعي للمشروع القطري الضمني الذي به وحده تفسّر تحالفات وسياسات وتناقضات الدوحة. فوزير خارجية قطر السابق، الذي بلسانه حدّد ما تريده قطر، ليس سابقاً إلا بالصفة الوظيفية، فيما هو في الواقع شريكٌ أولٌ في حكم الإمارة إلى جانب الأمير حمد بن خليفة، المعروف بـ”الأمير الوالد”. وإن وجدت أدلّة تعاكس هذا الافتراض حول من يحكم قطر فعلياً، فلا توجد أدلّة على أنّ المشروع السياسي تغيّر بتغيير القيادة، حين خالف الأمير حمد تقاليد انتقال الحكم في دول الخليج وتنحّى لصالح نجله الأمير تميم.

وفق هذا التصوّر لما تريده هذه الدولة الصغيرة والمتحفّزة، يسهل فهم موقفها من تنظيم الإخوان المسلمين. الإخوان أداة سياسية بيد الدوحة ضدّ السعودية والامارات ومصر. تماماً كما أنّ الورقة المذهبية أداة بيدها ضدّ السعودية من بوابة البحرين وصولاً إلى المنطقة الشرقية في السعودية.

ووفق هذا التصور لما تريده قطر يمكن فهم علاقاتها المتنامية بكلّ من إيران وتركيا، كعضلات مستعارة لمواجهة عضلات الرباعي الخصم. بيد أنّها وككلّ دينامية، فإنّ ما بدأ مع إيران وتركيا كتمرين على التوازن سرعان ما اتخذ لنفسه حياة خاصّة تطوّرت لأسباب معزولة عن أسباب النشأة، ودفعت قطر أكثر وأكثر إلى ما يشبه التحالف مع دولتين تعلنان العداء لدول الخليج، وتمارسان، واحدة عبر الميليشيات المذهبية وأخرى عبر الإخوان المسلمين، كلّ ما من شأنه أن يهدّد سلامة الأنظمة السياسية والبنى الاجتماعية في هذه الدول.

في هذا السياق تأتي الاتفاقات المتنوّعة الموقّعة بين الدوحة وأنقرة الشهر الماضي بعد الاجتماع السادس للجنة الاستراتيجية العليا التركية القطرية، لتتوّج مسار 28 قمّة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبين أمير قطر تميم بن حمد، منذ 2014. وتُعدّ قطر ثاني أكبر مستثمر في تركيا بحجم استثماري يبلغ نحو 22 مليار دولار في عام 2020. ولتركيا قاعدتين عسكريتين في قطر هما قاعدة الريان التي بُنيَت في 2014 ومعسكر خالد بن الوليد الذي بُنيَ في 2019.

في الفترة نفسها التي شهدت توقيع الاتفاقات التركية القطرية، وقَّعت قطر مع وإيران وثيقة تفاهم حول التعاون الاقتصادي المشترك في مجموعة مجالات، ضمن أعمال الاجتماع السابع للجنة المشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين.

وفق هذا التصور لما تريده قطر يمكن فهم علاقاتها المتنامية بكلّ من إيران وتركيا، كعضلات مستعارة لمواجهة عضلات الرباعي الخصم

وكما تركيا، شكّلت إيران مصدراً لتلبية احتياجات الدوحة من الأدوية والأجهزة الطبية، وتسهيل انتفاع الجانب القطري من إمكانات الموانئ والسكك الحديدية في إيران، بالإضافة إلى أجواء الطيران لـ”ترانزيت” السلع والنقل.

الأهم أنّ قطر وإيران تتقاسمان حقل غاز الشمال، أو حقل بارس الجنوبي، وهو أكبر حقل غاز في العالم.

إقرأ أيضاً: الفنون القطرية في تغطية زيارة السيسي إلى فرنسا

بموازاة تنامي العلاقات التركية الإيرانية القطرية، يتضح أنّ الدوحة، وفي عزّ الحديث عن المصالحة، ذهبت إلى حدود غير مسبوقة في التصعيد السياسي والإعلامي ضدّ الإمارات ومصر، وإلى التصعيد الميداني ضدّ البحرين، كما يبيّن التصعيد القطري البحري ضدّ الصيادين والبحّارة البحرينيين، إلى حدّ ملاحقتهم واعتقالهم داخل المياه الإقليمية للبحرين.

أخشى ما أخشاه أنّ الدوحة تريد من المصالحة ما أرادته من التآمر، وما أنبأنا به حمد بن جاسم. مصالحة تزيد أسباب التوتر في الخليج ومع مصر، وتوظَف في مزيد من التعرّض للمشروع الوطني السعودي وسلامته، من دون الالتفات إلى النتائج العكسية على قطر قبل غيرها.

قال لي مسؤول عربي كبير “في هذه المنطقة من العالم لا يمتلك السياسي ترف المواقف الشخصية. قد تفهم واشنطن أنّ الأزمة بسيطة وهي صراع إرادات بين حكّام أثرياء في الخليج. المسألة أعمق من ذلك بكثير. في المنطقة مشروع مشدود نحو المستقبل والحداثة والقانون والاستقرار، ومشروع يريد أن يحكمنا عبر أكثر صيغ الإسلام السياسي أذيّة وتخلّفاً أو أن يستغلّها لخدمة أوهام العظمة. على قطر أن تختار وأن تقرّر موقعها ودورها، الذي بموجبه تتحدّد شروط المصالحة أو استمرار المقاطعة”.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…