لا يُذكر العام إلّا بأحداثه، حلوها ومرّها. فلولا الأحداث لكانت السنون مجرّد زمن يمرّ. فالتاريخ العالمي لا يذكر العام 1913 بل 1914 لأنّه شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى. والتاريخ اللبناني لا يذكر العام 1974 بل 1975 لأنّ الحرب الأهلية اندلعت “رسمياً” خلاله. وهكذا الأشخاص لا يتذكرون من سنواتهم سوى تلك التي ولدوا فيها أو تزوجوا أو أنجبوا أو نجحوا أو مرضوا… إلخ.
وعلى هذا المنوال فإنّ العام 2020 سينطبع في ذاكرة اللبنانيين بسبب حدثه الفظيع: انفجار الرابع من آب. صحيحٌ أنّ العام الذي يهمّ بالانصراف شهد إنهياراً مالياً استثنائياً، وصحيحٌ أيضاً أنّ اللبنانيين عانوا من وباء كورونا مثل سائر أبناء البشرّية، لكنّ انفجار المرفأ يبقى الحدث الجلل، الحدث الذي طغى على كلّ ما عداه، كأنّه امتصّ كلّ أحداث العام وجعلها تبدو تافهة أمامه.
فأن يقع انفجارٌ بهذا الهول في مرفأ يعجّ بالأجهزة الأمنية وبالأجهزة الإدارية وهو أحدّ أهم المرافق العامة، وأن يقع انفجار كهذا في قلب العاصمة وعلى مقربة من أحياء مأهولة كان المرفأ في الماضي امتداداً لها وكانت امتداداً له، فهذا بمثابة إعلان موت الدولة اللبنانية وكأنّها ما عادت موجودة إلّا شكلاً. أمّا مضموناً فهي ركامٌ إداريٌ وسلطويٌ ما عاد يصلح لممارسة الحكم والمسؤولية.
ولعلّ أكثر ما يؤكّد مركزيّة يوم الرابع من آب في روزنامة 2020 أنّ أي محاولة لاستعادة محطات هذا العام وأحداثه سرعان ما تأخذ صاحبها إلى ذلك اليوم. كأنّ العام استحال يوماً واحداً لا قبله ولا بعده. لذلك فإنّ مراجعة الـ2020 لا بدّ أن تنطلق من حدثها الأفظع ومنه تتفرّع رجوعاً وتقدّماً لأنّ كل الطرق تودي إليه.
أن يقع انفجار كهذا في قلب العاصمة وعلى مقربة من أحياء مأهولة كان المرفأ في الماضي امتداداً لها وكانت امتداداً له، فهذا بمثابة إعلان موت الدولة اللبنانية
وإذا كان الإنفجار قد حمل دلالة على انهيار الدولة فهو حمل أيضاً دلالات كثيرة على واقع المسيحيين اللبنانيين ومستقبلهم بالنظر إلى وقوعه في منطقة شكّلت تاريخياً الجغرافيا الدلالية للتحوّل الاجتماعي والاقتصادي السياسي للمسيحيين منذ بداية القرن الماضي، والذي تكرّس لحظة إعلان دولة لبنان الكبير قبل مئة عام في الـ1920.
وللمفارقة فإنّ هذه الجغرافيا التي تكثّفت فيها معاني صعود المسيحيين الاقتصادي والسياسي في لبنان مطلع القرن الماضي، بعد أن كانوا لقرون مضت شبه معزولين في الجبل، هي نفسها التي تكثّفت فيها بعد مئة عام بالتمام معاني نكستهم الكبرى التي ليست سوى نكسة لبنان الذي سعوا إليه عن مصلحة أو عن مبدأ، أو الإثنين معاً، لكنّهم ألبسوه صورتهم ولبسوا صورته، فإذا بانفجار 4 آب يهشّم صورته وصورتهم في آن معاً.
أمام واقع كهذا يصبح العهد بكلّ ادّعاءاته مجرّد وهم سلطوي يحكم في الفراغ وبسببه، ويصبح النواب المسيحيون الأربعة والستّون الذين أتوا بأصوات المسيحيين هذه المرّة مجرّد أرقام لا يقدّمون ولا يؤخّرون، وتصبح أحزاب المسيحيين كلّ أحزابهم ماضوية تحمل أوزار الماضي وتعجز عن مواكبة الحاضر فضلاً عن المستقبل. كلّ ذلك لأنّ نكسة المسيحيين في انفجار المرفأ هي نكسة تاريخية ولا بدّ والحال هذه أن تقسم تاريخهم جزأين: ما قبل الرابع من آب بكل واقعه السياسي الذي حصلت في ظلّه الجريمة، وما بعده بكلّ مآسيه ولكن بحتمية إسقاط الواقع السياسي ذاك لأنّ اسقاطه بات شرطاً وجودياً… “هم أو نحن”، كما كتب على باب محلّ قديم في الأشرفية.
ربّ قائل إنّ انفجار المرفأ حصل في رقعة جغرافية معيّنة وهي رقعة حديثة نسبياً في جغرافيا المسيحيين، وبالتالي فإنّ تبعاته لا يمكن أن تشمل واقعهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي برمتّه، إذ أنّ موئلهم الأصلي يبقى الجبل المنيع… ينسى أصحاب هذه النظرية أنّ المسيحيين لو بقوا في الجبل لما أُعطوا لبنان الكبير بكل مكتسباتهم التاريخية فيه، وربّما ظلّوا مزارعين ينتظرون مواسم الصيف وبعض السيّاح الذين يرغبون في اكتشاف جمال الطبيعة وأنماط عيش “السكّان الأصليين”.
أمام واقع كهذا يصبح العهد بكلّ ادّعاءاته مجرّد وهم سلطوي يحكم في الفراغ وبسببه، ويصبح النواب المسيحيون الأربعة والستّون الذين أتوا بأصوات المسيحيين هذه المرّة مجرّد أرقام لا يقدّمون ولا يؤخّرون
لقد صنع التوسّع الديموغرافي المسيحي نحو بيروت، المدينة التي بزغ فجرها الحديث من خلال ازدهار مرفأها في الزمن العثماني الأخير وثمّ في الزمن الفرنسي، حضور المسيحيين السياسي والاقتصادي في لبنان. إذ وضعت بيروت مسيحيي لبنان على الخريطة السياسية والاقتصادية الجديدة للمنطقة التي كانت قد بدأت بالتشكّل ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر والتي تحدّدت معالمها تباعاً بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وتقاسم الحلفاء تركتها.
وللدلالة على الأهمية الجوهرية لبيروت بالنسبة لمسيحيي لبنان تكفي العودة لتجربتهم خلال الحرب، إذ لم يكتفوا بالتحصّن في الجبل والدفاع عن مواقعهم فيه، بل دافعوا عن جغرافيتهم البيروتية. فنزل مقاتلوهم من الجبل إلى بيروت ومات بعضهم في “الهوليداي إن” وفي “الأسواق”. كما أنّ بيت الكتائب المركزي بقي في الصيفي على المدخل الشرقي للعاصمة ولم يُنقل إلى بكفيا مثلاً، لأنّ الخروج من بيروت كان بمثابة إعلان الهزيمة النهائية، وذلك بالرغم من “ريبة الموارنة من المدينة” – بحسب تعبير ألبرت حوراني – وقد كان نقل القصر الجمهوري إلى بعبدا علامة مُبكرة من علامات هذه الريبة.
إقرأ أيضاً: المسيحيون يستفيقون: باسيل يهدّد وجودنا وتاريخنا وإرثنا
لذلك فإنّ انفجار الرابع من آب جعل العام 2020 بالنسبة للمسيحيين اللبنانيين، أفراداً وجماعة، عام الخيارات الكبرى. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن يتوسّع الحديث في أوساطهم عن الفيديرالية وأشكالها، وأن يرجّح كثيرون منهم خيار الهجرة كفعل يأس مطلق من إمكانات المستقبل في لبنان. هذا كلّه في ظلّ انهيار مالي هدّد وما يزال مكتسابات المسيحيين الأساسية في بلاد الأرز كالمدرسة والجامعة والمستشفى، وفي ظلّ التحولّات الكبرى في المنطقة وتحديداً لجهة اتفاقات التطبيع العربية – الإسرائيلية التي يخشى أن تسقط ولمرّة نهائية أدوار لبنان التاريخية في محيطه.
يحصل ذلك في وقت يتربّع على كرسي الرئاسة في بعبدا رئيس بنى زعامة متينة في أوساط المسيحيين خلال العقود الثلاثة الماضية من خلال تكريسه سردية سياسية تحمل وعوداً خلاصية للمسيحيين بعد أن انتهت الحرب إلى تراجعهم درجاتٍ في النظام (السيستام). لكن ما إن تولّى هذا الرئيس منصبه حتّى انكشفت هذه الوعود وانهارت توالياً، لاسيّما بعد الفالج المالي في تشرين الثاني 2019… ذلك التاريخ الذي شهد بدايات سلوك المسيحيين طريق التحوّل السياسي عن تلك الوعود الخلاصية، لكنّه تحوّل شهد تعرّجات كثيرة ولم يبلغ منتهاه حتّى بعد جريمة المرفأ.
فإذا كان العام 2020 عام اهتزاز الغطاء المسيحي لعرش الرئيس ميشال عون، فهل يكون العام 2021 عام سقوطه؟
كلام البطريرك بشارة الراعي الأخير عن عداء الجماعة السياسية للشعب والدولة كثير الدلالة في هذا الاتجاه، وكذلك كلام البابا فرنسيس الذي تضمّن اتهاماً ضمنياً للقيادات السياسية بتقديم مصالحها على مصلحة لبنان.
قال أحد الأصدقاء في سخرية مرّة إنّ “الموارنة سيظلّون متمسّكين بموقع الرئاسة حتّى يهاجروا كلّهم إلى كندا”. فهل ستصلح سخريته لعام إضافي أم تفقد مبرّرها؟