على مدار الأعوام الماضية تعرّضت مدن أهل السنة إلى محاولات ممنهجة لتدمير أجزاء واسعة منها ومن نسيجها، بدءًا من أحداث الضنية، مروراً بمعارك طرابلس وتفجير مسجديها، وليس انتهاءً بعرسال وصيدا. وخلال تلك الأحداث، كان “حزب الله” هو اللاعب الأكبر في دسّ صاعق التفجير وفي إشعاله. وكانت القيادات السنية دائماً في حالة ردّة الفعل، والعجز عن المواجهة السياسية، حتى وهي في كرسيّ الرئاسة الثالثة. وكان من “مميزات” تلك المرحلة، غياب التضامن بين المناطق السنية. فقد كانت بيروت تتفرج على طرابلس، وكانت طرابلس تنتظر تدمير عرسال، والجميع وقف صامتاً على تدمير صيدا، بعد عجزه عن مواجهة التعريف الظالم للإرهاب الذي فرضه “حزب الله” على الدولة والمجتمع واستخدمه لاضطهادنا عبر أجهزة الدولة الأمنية والقضائية.
هل توقف الذين ينصّبون أنفسهم على رأس المسؤولية عند التأثير الذي تركته حروب اشتعلت في مناطق السنّة رغم انتهاء الحرب الأهلية، على المستويات الاجتماعية والتعليمية، وحجم التسرب المدرسي وانتشار الأمراض والآفات الخطرة، من تطرّف أو فساد أخلاقي..
هل بحث “قادة” السنّة عن المؤسسات السنيّة العريقة التي تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، فلم يعد هناك مرتكزات صمود اجتماعي، رغم أنّ تلك المؤسسات صمدت في وجه الحرب الأهلية وعبرتها، لكنّ تراجع وضع السنة محلياً وخارجياً حوّلها إلى أطلال نقف اليوم على ركامها المتناثر على مساحة الوطن.
المؤسف في كلّ هذا أنّ الجمهور السني والنخب الموجودة، تأقلموا مع كلّ هذا التراجع والتخبّط، بل وتعايشوا حتى مع الاغتيال والتدمير والتهميش، بعد أن خسر مجتمعنا الكثير من القيم التي حفظت وجوده على تعاقب الأعوام.
هل توقف الذين ينصّبون أنفسهم على رأس المسؤولية عند التأثير الذي تركته حروب اشتعلت في مناطق السنّة رغم انتهاء الحرب الأهلية
هل يرى “كبار القوم” كيف تكاد مدن السنّة وبلداتهم تصبح غير قابلة للعيش من شدة تراكم الأزمات فيها وعليها، وباتت صورتها مقترنة بالفقر والفوضى والإرهاب، من دون أيّ تحرّك للمرجعيات الدينية والسياسية والاقتصادية والنقابية، حتى باتت هذه المناطق معزولة وتعاني من التصحّر السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فعلى أيّ بنيان يُسند “زعماء” السنة ظهورهم؟!
الأسوأ من هذا كلّه أن يرضى من يمثل السنّة بأن يكون تحت سلطة فريق لا يعرف لإرساء القانون طريقاً، ولا للانتماء إلى الدولة سبيلاً، بل دأبه التعطيل والتخريب، وهو يريد فرض منظومته العقائدية على لبنان وجرّه إلى محور إيران.
على المستوى السياسي، كيف نستطيع الاطمئنان إلى المآلات، بعد أن تمكن “حزب الله” من الاستيلاء على الدولة ونجاحه في سياسة الابتزاز والتعطيل، فامتلك الأغلبية النيابية وأوصل رئيس الجمهورية ببندقية المقاومة، كما قال النائب المستقال نواف الموسوي.
ولنرى وجهاً آخر من وجوه التغيير الجذري الذي تمكن “حزب الله” من إنجازه في السياسة، علينا أن ننظر كيف تمكّن من تطبيع كثير من المسيحيين مع فكرة الولاء لنظام الوليّ الفقيه بعقيدته وطريقة الحياة التي يعتمدها رغم تناقضها التام مع الحياة المسيحية، فاستطاب التيار العوني هذا التوجه تحت شعار الحماية من الإرهاب (السني)، ودمجه بطموحاته العنصرية، والتقيا على قاعدة “التقيّة” للوصول إلى السلطة وضرب الحريات وابتلاع مواقع الدولة.
هل يعي اللبنانيون خطورة أن يمنح الناخب المسيحي التيار الوطني الحر أكبر كتلة في البرلمان وهي تمثل حزباً تخلى عن القيم المؤسِّسة للكيان اللبناني، وأهمها الحرية والسيادة والاستقلال وحتى دستور الطائف، ويروّج للتبعية إلى محور مناقض حتى لطبيعة حياة المجتمع المسيحي، وما يمكن أن يشكله ذلك من خطر على الصيغة اللبنانية ككل؟
هل ترى نخبـُنا السنية حجم الأذى الذي أحدثه الرئيس سعد الحريري في العلاقة الإسلامية المسيحية بسبب انقلابه على تحالفه مع الشريك المسيحي الأكثر مصداقية منذ قيام 14 آذار وهي القوات اللبنانية، التي رفضت منطق حلف الأقليات وحافظت على علاقة لصيقة بقضايا السنة في لبنان، مقابل تحالف الحريري مع أكثر الجهات المسيحية عنصرية وتسلقاً (صديقه جبرانه وحزبه) مما أحدث خللاً سياسياً لا يُعوَّض، في إطار الصراع الدائر على هوية لبنان.
على المستوى السياسي، كيف نستطيع الاطمئنان إلى المآلات، بعد أن تمكن “حزب الله” من الاستيلاء على الدولة ونجاحه في سياسة الابتزاز والتعطيل، فامتلك الأغلبية النيابية وأوصل رئيس الجمهورية ببندقية المقاومة، كما قال النائب المستقال نواف الموسوي
واقع السنة اليوم هو أنّ معظمهم لا يريد التفكير كطائفة نظراً لتعلقهم بفكرة الدولة وبالاستناد إلى أنّهم هم “أمّ الصبي” أو بعبارة أخرى هم الأكثرية الممتدة في العالم العربي، والواقع هو أنّ السنة يفكرون كأكثريةٍ مشارِكة، بينما هم يعامَلون كأقلية مقهورة. وربّما من الواجب اليوم على النخب السنية أن تنظر إلى واقعها من هذا المنظار، وأن تخلع النظريات المثالية التي تعطي الانطباع بوجود حماية ما تؤمّن المستقبل.
نعم، على السنة ليس فقط أن يقلقوا، بل إنّ ما وصلت إليه الأمور في بلدان الهيمنة الإيرانية من خراب في النسيج الاجتماعي وفي الواقع الاقتصادي، وفي طبيعة المنظومة المسيطرة، والنظام السياسي الناشئ، لا بدّ أن يدفعهم إلى الاستيقاظ من نومهم على حرير الأفكار المطمئنة.
إقرأ أيضاً: نعم.. على السنّة في لبنان أن يقلقوا (1/2)
كلّ دواعي القلق والخوف من المستقبل تتجمع في سمائنا، وهي تُرعد وتوشك أن تمطر سلاحاً وتجويعاً وتهجيراً.. قبل أن يصبح لبنان جزءً من مشروع أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله الذي خطب ذات يوم من ثمانينيات القرن الماضي قائلاً إنّه لا يريد “لبنان جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه الولي الفقيه”.
لقد دخل لبنان مرحلة تغيير النظام بالقوة، مع ما يرافق ذلك من فوضى تمهيدية واغتيالات لتفريغ المجتمعات المعارضة من القيادات المؤهلة للجلوس على طاولة الحلّ النهائي، فينطق باسمها الرعاع ويُدخلونها حظيرة الوليّ الفقيه، ويسقط الوجود السني والعربي في لبنان.. وإذا لم يدرك من تقع عليه المسؤولية ما ينتظرنا فعلى السنة وعلى لبنان السلام.