تتّسع دائرة من يعتقدون في بعض أوساط البيئة المسيحية بأنّ الفيديرالية أو ما يشبهها هي الحلّ لأزمات لبنان. ويتكاثر الداعون إليها في المجالس وعلى الصفحات والإعلام.
والحال أنّ هذه الفكرة تعاود ظهورها كلما شعر المسيحيون بأنّهم، ولبنان، في أزمة وجودية. تحديداً عندما يلوح لهم أنّ النظام المركزي التشاركي عالق في عنق الزجاجة.
وبعضهم يغلّب التشاؤم إلى حدّ الإطلاق. فيذهب في إعادة النظر إلى حدّ اعتبار أنّ “دولة لبنان الكبير” التي أعلن الفرنسيون إنشاءها قبل مئة سنة كانت خطأً تاريخياً فادحاً، وتالياً أنّ الرهان على المشاركة مع المسلمين في بناء دولة حديثة تُشبه فرنسا – على صغر هذه البلاد مساحة وسكاناً – كان رهاناً خاسراً. الدليل على ذلك ما حفل به تاريخ لبنان الحديث من نزاعات واضطرابات وحروب، يضعها مؤيّدو هذا المنحى في سياق تغليب الولاء الديني على الولاء للوطن. من أيام الملك فيصل الهاشمي إلى الرئيس عبد الناصر، وياسر عرفات وحافظ الأسد، وصولاً إلى زمن الخامنئي مروراً بالتجربة الإسرائيلية أيضاً.
وبما أنّه لا يمكن إعادة الزمن إلى الوراء، ولا إعادة رسم خرائط دول المنطقة التي رُسمَت خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، ينبغي لإنقاذ ما تبقى من حضور للمسيحيين في لبنان، تعديل النظام أو تغييره إذا أمكن، بطريقة تتيح لهم إدارة شؤونهم بأنفسهم والحقّ في تقرير المصير.
يقولون: جرّبنا نموذج الدولة المركزية ولم ينجح. وتبيّن لألف سبب وسبب أنّها لا تصلح للبنان. نريد لوطننا دولة يستطيع أولادنا وأحفادنا أن يحبّوها ويضحوا في سبيلها ويبقوا فيها وتزدهر حياتهم في ظلّها. فلا تكون دولة حرب دائمة، هامدة أو صاخبة، كالتي فرضها تنظيم “حزب الله” بسلاحه وعقيدته على جميع اللبنانيين، مستنداً إلى ولاء غالبية بيئة طائفته، ودعم غير مشروط من الجمهورية الإسلامية في إيران.
تتّسع دائرة من يعتقدون في بعض أوساط البيئة المسيحية بأنّ الفيديرالية أو ما يشبهها هي الحلّ لأزمات لبنان. ويتكاثر الداعون إليها في المجالس وعلى الصفحات والإعلام
هذه الدولة التي تقاذفتها أرجل “سوريا الأسد” و”إيران الخامنئي” بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني التي أُقرّت في الطائف وأنهت حروباً مضنية تناسلت منذ 1975، لا بل منذ “اتفاق القاهرة” العام 1969، لا تُشبهنا ولم نعد نريدها.
الواقع أنها جعلتنا بلا حَول ولا قوة ولا. وكل الحق على النظام الذي كان فشله عظيماً فحوّل اللبنانيين فقراء هائمين على وجوههم يعيش جزء كبير منهم على المساعدات. تحقيق الفيديرالية أو اللامركزية السياسية والإدارية الموسّعة فرصة لتفكيك حصرية السلطة، ومعالجة الإهمال المتراكم، وتعزيز ثقافة المساءلة والمحاسبة. وفي الوقت نفسه توضع المواضيع الخلافية على طاولة البحث والحوار، وفي طليعتها موضوع سلاح تنظيم “حزب الله”، ولكن من دون تعطيل مصالح المواطنين كما هي الحال اليوم.
وينظر أصحاب هذه الفكرة بتحسّر إلى “نجاح” خيار اليهود الصهيونيين بإقامة دولة لهم على أرض فلسطين، في مقابل تهاوي خيار “دولة لبنان الكبير” القائم على العيش معاً والشراكة بين المسلمين والمسيحيين والانفتاح على العرب وكل العالم.
يغفل “الفيديراليون الجدد”، إذا جاز التعبير، أنّ الفيديرالية تعني في ظلّ موازين القوى القائمة أن يهتم اللبنانيون ببلدياتهم ومَختَراتهم وينصرفوا لخلافاتهم المحلية الصغيرة. وفي المقابل يسيطر الحزب الديني المسلّح، والمرتبط بالخارج، على الدولة اللبنانية رسمياً ونهائياً، وبقبول بقية مواطنيها. وساعتها، ضيعان لبنان، حقاً!
أنّ الفيديرالية في غياب سيادة الدولة كاملة على كلّ أراضيها هي نوع من حكم ذاتي للمسيحيين وسواهم، لقاء تسليم لبنان بكامله للحزب الذي لن يقبل بأيّ شكل، ومهما يكن نظام الحكم، بالتخلّي عن سيطرته على السلطة المركزية، ولا سيما السياسة الخارجية، العسكر والأمن والحدود، المال وإدارته.
تحقيق الفيديرالية أو اللامركزية السياسية والإدارية الموسّعة فرصة لتفكيك حصرية السلطة، ومعالجة الإهمال المتراكم، وتعزيز ثقافة المساءلة والمحاسبة. وفي الوقت نفسه توضع المواضيع الخلافية على طاولة البحث والحوار، وفي طليعتها موضوع سلاح تنظيم “حزب الله”
كما لن يقبل لا بحياد ولا تحييد ولا أي مسّ بسلاحه، حتّى لو فَنِيَ اللبنانيون جوعاً.
إلا أنّ ثّمة عبرة من التاريخ: السلطنة العثمانية أعطت أهل الجبل اللبناني نوعاً من حكم ذاتي: المتصرفية. والإمبراطورية الفارسية اليوم لن تعارض ربما.
إقرأ أيضاً: لا داعي للمفاصلة: إما الحياد أو الانفصال؟
يا لها من نهاية ذاتية لجماعة أتيحت لها فرصة أن تكون نخبة الحكم في دولة اسمها “لبنان”، قامت بناءً على إصرارهم ورفضهم أي صيغة لحكم ذاتي ضمن المملكة العربية. يرفضونها من الملك فيصل ويقبلونها من الإمام الخامنئي؟
قد تكون الفيديرالية هي “الخطة ب” عند “حزب الله” إذا ساءت ظروفه. يسيطر على منطقة ويفرض سلطانه على البقية وعلى الدولة. لكنّه لاحقٌ على الانتقال إلى هذه الخطة.
الآن ما العمل بالنسبة إلى بقية اللبنانيين؟
من غير تخطيط قدمت أحداث الأعوام الماضية بديلاً من ضمن اتفاق الطائف: نموذج حكومة الرئيس تمام سلام. وزراء بمثابة رؤساء لكلّ منهم حق الفيتو. القرارات والمشاريع تسير بتوافقهم وإن على طريقة “مرّقلي تَمرّقلك”. هكذا تشعر كل فئة من اللبنانيين بأنّها على قدم المساواة مع الفئات الأخرى وتكون مضطرة للتفاهم مع الآخرين لتأمين مصالحها، ويمكن تطوير الصيغة نحو تفاهم على مداورة في رئاسة الحكومة وغيرها والوزارات. من يراجع تلك الحقبة يلحظ تميّزها بتراجع لافت للتشنّجات الطائفية لمرّة نادرة في تاريخ لبنان. لمَ لا؟