بقلم إيزابيل كيرشنير Isabel Kershner (نيويورك تايمز)
استعاد مسلسل تلفزيوني إسرائيلي جديد أحداثاً حقيقية من حرب عام 1973، عندما بوغتت إسرائيل في أقدس يوم في التقويم اليهودي (يوم الغفران)، بإعلان الحرب عليها. ذكريات تلك المرحلة تشرح كيف خشيت إسرائيل من الدمار الكامل. وأطلق المسلسل أيضاً مراجعة عامة مكثفة مع استحضار الصدمة الناجمة عن الحرب، وكيفية تعامل الناجين مع الذكريات.
هو مسلسل عالي التأثير، نكأ جرحاً جماعياً وأفاض مشاعر عاطفية متدفّقة. كما عرّف جيل الشباب إلى تضحيات ساحة المعركة والإخفاقات المروّعة للقيادة التي أفضت إلى شنّ الهجوم العربي المُفاجئ المنسّق على إسرائيل يوم الغفران بقيادة الجيشين المصري والسوري. وهذه الفترة مؤلمة إلى درجة أنّ الثقافة الإسرائيلية نادراً ما تجرّأت على مناقشتها.
يقول رون ليشيم Ron Leshem، الذي شارك في المسلسل مع أميت كوهين Amit Cohen، وكلاهما من قدامى المحاربين في وحدة الاستخبارات 8200 التابعة للجيش الإسرائيلي: “كانت هذه أسوأ صدمة لنا، وأسوأ كارثة لدينا كبلد”. وأضاف ليشيم: “على مدى 47 عاماً، كان الناس يشعرون بأنّها حرب منسية، وأنّهم سينهون حياتهم دون أن يعرف أحد قصصها. كنا نعلم أنّ علينا مسؤولية فظيعة”.
استغرق إنتاج الحلقات التي بثّتها القناة الاسرائيلية الرسمية “كان” عشر سنوات، بميزانية تبلغ ملايين الدولارات، وهي تتجاوز بكثير ميزانيات الإنتاجات الإسرائيلية النموذجية. وتضمّنت تلك الحلقات مشاهد ملحمية تقطع الأنفاس من معارك الدبابات في مواقعها الأصلية في مرتفعات الجولان، وهي التي استولت عليها إسرائيل من سوريا في حرب العام 1967. وفي عام 1973، هاجم السوريون من الشمال والمصريون من الجنوب.
هو مسلسل عالي التأثير، نكأ جرحاً جماعياً وأفاض مشاعر عاطفية متدفّقة. كما عرّف جيل الشباب إلى تضحيات ساحة المعركة والإخفاقات المروّعة للقيادة التي أفضت إلى شنّ الهجوم العربي المُفاجئ المنسّق على إسرائيل يوم الغفران بقيادة الجيشين المصري والسوري
يرجع “وادي الدموع” “Valley of Tears” (منطقة في الجولان شهدت أشرس المعارك عام 1973 بين الجيشين السوري والإسرائيلي بين 6 و9 تشرين الأول، وسميت المعركة باسم معركة وادي الدموع) إلى لحظة الحنين للماضي عندما صنعت الأزمة شعوراً بالتضامن الاجتماعي. وهو موضوع بدا أنّ له صدى أكبر وسط القيادة الحالية مع حالة الأزمة التي تمرّ بها في إسرائيل، والخوف من المواجهة مع إيران أو وكلائها في المنطقة. بل كان على تصوير الحلقات أن يتوقف لبضعة أسابيع بسبب إطلاق الصواريخ عبر الحدود السورية.
بالنسبة لإمري بيتون Imri Biton (35 عاماً) وهو ممثّل وجندي سابق، عكست الدراما الخيالية واقعه الخاص. وخلال محادثاته مع قدامى المحاربين الاسرائيليين فى حرب عام 1973 بينما كان يستعد لدوره فى “وادي الدموع” تحدّث المحاربون القدامى عن ذكريات الماضي، والكوابيس، والاكتئاب، ونوبات القلق. واتضح منه أنّه كان يعاني هو أيضاً من اضطراب ما بعد الصدمة post-traumatic stress disorder: “فجأة فهمت أنني أصبحت شخصاً أكثر انغلاقاً” ، مستذكراً تجاربه الخاصة في حرب عام 2006 في لبنان: “عانيتُ من نوبات. لم أستطع السيطرة على غضبي”.
استجابته المتأخرة وصحوته الشخصية نوقشت على نطاق وطني في المحادثات التي تناولت هذه الحلقات. وكان لقي ما يقرب من 2700 جندي إسرائيلي مصرعهم فى الحرب التي استمرت 19 يوماً، وأُصيب الآلاف من بين حوالى 3 ملايين إسرائيلي في ذلك الوقت.
يرجع “وادي الدموع” “Valley of Tears” (منطقة في الجولان شهدت أشرس المعارك عام 1973 بين الجيشين السوري والإسرائيلي بين 6 و9 تشرين الأول، وسميت المعركة باسم معركة وادي الدموع) إلى لحظة الحنين للماضي عندما صنعت الأزمة شعوراً بالتضامن الاجتماعي
المسلسل بعنوان “Sha’at Neilah” باللغة العبرية، أو ساعة الختام، في إشارة إلى الصلاة النهائية لصوم يوم الغفران، إذ ترى التقاليد اليهودية أنّ مصائر الناس للعام المقبل مختومة مع اقتراب أبواب السماء. ومع اقتراب المسلسل من نهايته هذا الأسبوع، أفادت هيئة البثّ الإسرائيلية “كان” أنّ المسلسل حصل على أكثر من 7.5 مليون مشاهدة على قناته التلفزيونية ومنصته الرقمية.
فضلاً عن التقاء المسلسل مع المواضيع العالمية للحرب، فقد انتشرت حلقاته أيضاً على الصعيد العالمي من خلال قناة HBO Max.
وإلى جانب ما لقيه المسلسل من ثناء، برزت سلسلة انتقادات من بعض المحاربين القدامى الذين اعترضوا على عدم الدقة التاريخية – الرخصة الفنية artistic license (عدم التزام الفنانين بالدقة التاريخية)، وفقاً للمبدعين. ووجد آخرون أنه من الصعب جداً مشاهدته. واشتكى البعض من أنّه أظهر إسرائيل في أضعف حالاتها، على الرغم من أنّها كانت منتصرة في نهاية المطاف.
وقد استعدّ مسبقاً مخرج المسلسل يارون زيلبرمان Yaron Zilberman لهذا الهجوم المتوقّع، باقتراحه أن يعمل فريق الإنتاج بشكل وثيق مع “ناتال” “Natal“، وهي منظمة إسرائيلية رائدة تعالج ضحايا الصدمات النفسية الناجمة عن الحروب والهجمات الإرهابية، والتي شهدت ارتفاعاً حادّاً في الاتصال بها عبر خطوطها الهاتفية لتقديم العون.
وأعقب بثّ كلّ حلقة، نقاش لطيف. إذ قام جنود مقاتلون حقيقيون مع أُسرهم بسرد تجاربهم، لينتهي كلّ نقاش مع أغنية مهدّئة من تلك المرحلة. ومع ذلك، كان ردّ فعل الجمهور أبعد بكثير مما توقّعه أيّ شخص.
قالت الدكتورة حنّا هيمي، مديرة الوحدة السريرية فى “ناتال”، والمحاضرة فى كلية “بيت بيرل”، في وسط إسرائيل: “كلما مضى المسلسل قُدُماً، أصبح صادماً ومثيراً أكثر فأكثر”. ووصفت المسلسل بأنّه “هدية معقّدة” لأنّه أعاد فتح الجروح المؤلمة، ورفع مستوى الوعي والتعاطف.
وشارك إسرائيليون من جميع الأعمار حكاياتٍ شخصية أو أُسرية عبر صفحة مخصّصة على فيسبوك تضمّ أكثر من 40,000 متابع. زكتب ليشيم أنّه سيعيش بعد المسلسل كـ”أرشيف رقمي يتنفّس”.
وقامت الأُسر برحلات إلى مواقع القتال. بدأ المراهقون بالبحث في حرب عام 1973 عبر الإنترنت. الأجداد رووا قصصهم للمرة الأولى. وإذا كان من العار الاعتراف بصدمة الحرب في “العصر العظيم” خلال السبعينيات، فإنّ ذلك أصبح أقلّ في الحروب اللاحقة. لقد كانت إسرائيل الطرف الأقوى في حروبها في لبنان وغزّة، حيث كان أوسع حجم الموت والدمار وما صاحبه من صدمات.
لكنّ خبراء يقولون إنّ وزارة الدفاع تعترف رسمياً بأنّ 10 إلى 15 فى المائة من الجنود الإسرائيليين، العائدين من الحروب، يعانون من حالة ما بعد الصدمة، بينما كثيرون ظلّوا أقلّ تضرّراً أو لم تُشخّص حالاتهم على أنّها مرَضية.
بيتون Biton، الممثّل، يلعب دور ألوش Alush، وهو ضابط طموح يأسره السوريون. وهو مرّ بتجربة خاصة بعد أكثر من عقد من الزمن أثناء مساعدته في إجلاء الرفاق القتلى تحت النيران في جنوب لبنان، وهي التجربة التي شاركها مع الآخرين في جلسة استماع برلمانية حول صدمة الحرب: “كلّ هذا بدأ يفيض… المسلسل أيقظ الشياطين”، يقول.
ويقترح المشرّعون الإسرائيلين قانوناً لخفض الوقت الذي تستغرقه وزارة الدفاع لمعالجة ضحايا الصدمات النفسية وتقديم العلاج.
وبحسب روني ساسوفر Roni Sassover، الذي يدير واحدة من عشر منظمات غير حكومية إسرائيلية تساعد الذين يعانون من صدمات الحرب: “قد يستغرق العلاج خمس أو سبع أو عشر سنوات. هؤلاء مقاتلون، وطنيون كبار قدّموا كلّ ما لديهم من أجل الدولة”.
خبراء يقولون إنّ وزارة الدفاع تعترف رسمياً بأنّ 10 إلى 15 فى المائة من الجنود الإسرائيليين، العائدين من الحروب، يعانون من حالة ما بعد الصدمة، بينما كثيرون ظلّوا أقلّ تضرّراً أو لم تُشخّص حالاتهم على أنّها مرَضية
تأتي هذه الصحوة أيضاً في وقت تشهد منظمات مماثلة انخفاضاً في التمويل والتبرعات بسبب التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا. ثمّة برنامج واحد، هو Soul Key، يعالج العشرات من قدامى المحاربين في مرحلة ما بعد الصدمة، من خلال الموسيقى، بالشراكة مع المعهد الموسيقي الإسرائيلي للموسيقى في تل أبيب.
إيفات غرينوالد كوهين Ifat Grinwald-Cohen، وهي عالمة نفس سريرية أسّست البرنامج، أُصيبت هي نفسها في حادث تدريب للجيش عام 1992، تكشف أنّ “الموسيقى علاج موجود في الطبيعة. إنّها غير مفروضة، بل هي لطيفة على الناس”.
بالنسبة للكثيرين، إنّ رحلة ما بعد الصدمة طويلة.
مشائيل بهرند Mishael Behrend (67 عاماً)، وهو عضو في برنامج “سول كي”، يتذكّر بوضوح أهوال القتال في صحراء سيناء في حرب عام 1973، حيث فقد ساقه. ظهرت صدمته فجأة قبل حوالى 15 عاما، بعد أن كبر أولاده، وغادروا المنزل: “ربما مجرّد أن رفعن المسؤولية، سقطت الدفاعات التي بنيتها”. وكشف أنّه يعاني من نوبات قلق واكتئاب وألم: “لم أتمكن من دخول قاعة زفاف. كنتُ أصل إلى المكان، أترك هدية، وأعود إلى المنزل. أو أذهب إلى مركز تسوّق. أسمع ضجيجاً وأهرب”.
إقرأ أيضاً: مسلسل ما وراء الطبيعة: تعريب الرعب
وقاتل عضو آخر في البرنامج، أفيهاي هولاندر Avihai Hollender، البالغ من 28 عاماً، مع وحدة كوماندوس من النخبة في واحدة من أشرس المعارك وأخطرها في حرب غزّة عام 2014. وقال إنه قبل نحو عامين، وبعد ولادة ابنه آري Ari، أدّى به إدراكه أنّه يمكن أن يؤذي بغضبه المحيطين، قرر طلب المساعدة.
ومن أجل إطلاق حملة لجمع التبرّعات لمنظمة “سول كي”، كتب أغنية عن العيش ما بعد الصدمة بعنوان “الأب لا يمكنه العثور على السلام”.
وعلى الرغم من أنه تجنّب مشاهدة “وادي الدموع”، فقد اختير لأداء أغنيته على شاشة التلفزيون في نهاية الحلقة الأخيرة المؤلمة.
“الشظايا لم تخترق جسدي”، كان يغنّي، “فقط روحي”.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا