المواقف الأخيرة الصادرة عن القيادات الإيرانية، وتحديداً القائد أو المرشد الأعلى للنظام آية الله السيد علي خامنئي الذي وجّه توصية للجهة المعنية بالتفاوض حول العقوبات والإتفاق النووي أن “لا تتأخروا ساعة في العمل على إلغاء العقوبات ورفعها إذا كنتم على يقين من ذلك”، فتحت الأجواء أمام رئيس الجمهورية حسن روحاني للذهاب إلى الدفاع عن خيار التفاوض مع الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن من أجل إلغاء العقوبات الاقتصادية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترمب بعد قرار انسحابها من الإتفاق النووي في أيار 2018.
وقد تزامنت هذه المواقف مع مؤشر إيجابي واضح الدلالات صدر عن المرشد أيضا يتعلق بموافقته على إعادة طرح موضوع انضمام إيران إلى معاهدتي FATF وباليرمو لمكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال وإدراجه على جدول أعمال مجمع تشخيص مصلحة النظام. الأمر الذي يُعتبر محاولة إيرانية استباقية للتعامل مع النتائج المالية لأي تفاهمات قد تحصل في المستقبل بما يمهد لإيران حرية التعامل مع البنوك الدولية ورفع اسمها عن لوائح معاهدة FATF السوداء.
المواقف المساعدة للمرشد والصوت العالي للرئيس روحاني جاءت كترجمة للإيجابيات التي لمستها طهران في هذه اللقاءات وإمكانية البناء عليها للتوصل إلى تفاهمات جديدة في إطار الإتفاق النووي القائم الذي تقف طهران على حافة الخروج منه، ولن تخرج
هذه التطورات لا يمكن أن تأتي من فراغ، أو أن تكون وليدة لحظة عاطفية أنتجتها الأوضاع الاقتصادية المتردية التي وصلت إليها الأمور نتيجة الآثار المركّبة للعقوبات الأميركية وجائحة كورونا. وما كانت لتعطي روحاني، بما يشغله وشغله من مواقف رسمية في رئاسة الجمهورية والمجلس الأعلى للأمن القومي وسابقا ككبير المفاوضين حول البرنامج النووي مع الترويكا الأوروبية (حتّى عام 2005)، القدرة للعودة إلى إعلان تمسّكه بالمسار التفاوضي مع الإدارة الأمريكية الجديدة وتأكيده أنّه لن يتردّد في التأخّر، ولو ساعة واحدة، من أجل تحقيق الهدف الذي سعت له حكومته خلال السنوات الثماني الماضية برفع العقوبات والانتقال إلى مرحلة جديدة من الانفتاح على المجتمع الدولي.
لا شكّ بأن مساراً بعيداً عن الأضواء، في مكان ما على المقلب الآخر من مياه الخليج قبالة السواحل الإيرانية، قد شهد لقاءاتٍ ومفاوضاتٍ سرية، على غرار المفاوضات واللقاءات التي استضافتها سلطنة عمان في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما وانتهت عام 2013 إلى مفاوضات مباشرة بين الطرفين أنتجت الاتفاق النووي. وهذه المواقف المساعدة للمرشد والصوت العالي للرئيس روحاني جاءت كترجمة للإيجابيات التي لمستها طهران في هذه اللقاءات وإمكانية البناء عليها للتوصل إلى تفاهمات جديدة في إطار الإتفاق النووي القائم الذي تقف طهران على حافة الخروج منه، ولن تخرج.
من الواضح أنّ السقف الذي رسمته إيران لآليات ونتائج هذه المفاوضات إذا حصلت، سيكون محكوما بعوامل ومسلّمات، لعلّ أبرزها عدم التنازل أمام المساعي والجهود التي تبذلها واشنطن وعواصم الترويكا الأوروبية لإعادة هيكلة الاتفاق النووي وتوسيعه ليشمل البحث في البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي، وذلك انطلاقاً من أنّ المسار الذي ذهبت إليه إدارة دونالد ترامب في فرض عقوبات خانقة، بتواطؤ أوروبي، لم تنفع ولم تؤدِّ إلى إجبار النظام على تقديم أيّ تنازل في هذه “الحرب الاقتصادية”، على ما يسمّيها روحاني. بل انتهت بفشلها وخسارة من لجأ إليها، بحسب روحاني أيضاً. ما يعني أنّ سلاح العقوبات لن يكون مجدياً إذا لوّحت واشنطن به من جديد.
ومن المحتمل أن يعيد الفريق الإيراني المفاوض طرح ما سبق أن قدّمه أواخر عام 2018 على طاولة لجنة متابعة الاتفاق النووي مع مجموعة (4+1) من دون أميركا، حول إمكانية الموافقة على وقف تطوير البرنامج الصاروخي عند النقطة أو المرحلة التي وصل إليها، بانتظار انتهاء المحدّدات التي تضمّنها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231. وهو شكّل مظلّة دولية للاتفاق النووي. بالإضافة إلى فتح النقاش حول مستقبل الاستثمارات الاقتصادية للدول المشاركة في الإتفاق بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تنَل من هذه الاستثمارات أيّ حصة، بحسب تعبير ترامب خلال إعلانه استراتيجيته حول إيران.
طهران ستكون على استعداد للانفتاح على حوار جدّي مع المملكة العربية السعودية بشكل مباشر في إطار المبادرة التي طرحها وزير الخارجية محمد جواد ظريف خلال زيارته العاصمة العراقية بغداد، تحت عنوان “التضامن الإقليمي
أما في الشقّ المتعلق بالدور الإقليمي، فالقيادة الإيرانية لن تتنازل عن موقفها المطالب بخروج القوات الأميركية من المنطقة، كثمنٍ أعلنت أنّها لن تقبل بأقلّ منه، كعنوان استراتيجيّ جاء ردّاً على اغتيال قائد قوّة القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، رأس المشروع الإقليمي. وزادت الأمور تعقيداً بعد اغتيال محسن فخري زاده، رأس المشروع النووي. لذلك فهي لن تكون على استعداد للتخلّي عما تتمتّع به من نفوذ في عدد من عواصم المنطقة، من دون أن تقفل الباب أمام مساعي التوصل إلى تفاهمات مع الدول التي تعلن قلقها من هذا الدور والنفوذ، وأن تبدي إيجابية اتجاه المبادرات التي تطرح في هذا الإطار، باستثناء أيّ مبادرة أميركية. على الرغم من الهواجس المرتفعة الناتجة عن المستجدّ السياسي والأمني والعسكرية الحاصل بين هذه الدول وبين إسرائيل، نتيجة اتفاقيات السلام والتطبيع التي تم التوقيع عليها.
معنى هذا أنّ طهران ستكون على استعداد للانفتاح على حوار جدّي مع المملكة العربية السعودية بشكل مباشر في إطار المبادرة التي طرحها وزير الخارجية محمد جواد ظريف خلال زيارته العاصمة العراقية بغداد، تحت عنوان “التضامن الإقليمي”. ومرّة أخرى تحت عنوان “أمن هرمز”، مع إعطاء دور فاعل ومساعد للحليف الروسي الذي خرج وزير خارجيته سيرغي لافروف للحديث عن استعداد موسكو للعب دور الوسيط بين طهران والرياض لتخفيف التوتر بينهما.
هذه الخطوة في حال حصلت، ومن خارج الإدارة الأمريكية، تعني أنّ طهران ستكون على استعداد للتعاون الإيجابي مع الرياض في الملفّ اليمني. خصوصاً أنّها أعادت قبل أيام الحديث عن النقاط الأربع لمبادرتها اتجاه الحل السياسي لهذه الأزمة، على لسان كبير مساعدي وزير الخارجية في المسائل السياسية الخاصة، علي أصغر خاجي. وأكّدت على الحوار اليمني – اليمني، الذي يعني تنحية الشرط الذي سبق أن تمسكت به خلال السنوات الماضية عن حوار حوثي – سعودي كمدخل للحلّ السياسي.
إقرأ أيضاً: إيران: الاغتيال النووي زاد الانقسام حول التفاوض مع واشنطن
أيّ تقدّم في هذه المسارات، من وجهة نظر النظام وقيادته، خصوصاً في موضوع انسحاب القوات الأميركية من غرب آسيا، سيكون عاملاً مساعداً في الانتقال إلى المسارات الإقليمية الأخرى في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، على قاعدة أنّ الطموح الإيراني يقوم بناءً على مبادرة ظريف ودعم روسي على فتح حوارات بين قوى إقليمية من دون أي شروط قد يفرضها وجود عسكري أميركي ضاغط في المنطقة.