يستعمل فيديو البقلاوة النّسوي، من بطولة الفنانة والأنفلونسر ريمي عقل، الذي أطلقته منظمة “أبعاد” في إطار حملة “صانعة أمان”، أبرز عناوين الخطاب الذّكوريّ، ويدّعي أنّه يوظّفها في سياق التّوعية ودعم مناصرة قضايا المرأة.
يتم التّمهيد لانفجار الذّكورية السّلبيّة في الفيديو بتقديم يقول: “الأحمر هنا لا يرمز للميلاد، وهذا الفيديو يحتوي على مشهد لم يتم عرضه من قبل، ولم أقم بجعله أكثر دراما، هو فقط يؤذي العقل والعين والقلب والروح بحقيقته ووقعه على النّظر والخيال والذاكرة والصّحة النّفسيّة، ولكنّه ليس درامياً فلا تقلق”.
الجدليّة السلبيّة الحاملة لشحنات من السخرية الثّقيلة والتي تحاول الإيحاء بثقل الموضوع وواقعيته، والّتي تخاطب الرجل داعية إياه إلى عدم القلق على الرّغم من أن ما سيعرض يؤذي العين والقلب ويفتّت الروح، لا تفعل سوى خلق تقديم هجوميّ مطلق لتناول الموضوع، وهو تناول يصف الرّجل بأنّه كائن محروم من كلّ الصفات التي تجعل منه إنساناً. فهو لا يتأثر درامياً بالمأساة التي ستعرض في الفيديو، لأنّه المتسبّب بها ولأنّه كائن يقع خارج تعريف الإنسان.
حضور المرأة في الفيديو يقدّم نماذج متطابقة شكلياً، وهذا المنطق هو خطاب السلطة نفسه. فالفيديو يحاول استعماله للتوكيد على وحدة قضية المرأة، لكنّه يقول العكس عملياً، لأنّه لا يمكن أن تنطلق عمليّة وعي عام خارج الخصوصيّة الفرديّة
من هذا التقديم الباهر تفتتح الفنانة خطاب البقلاوة بخدعة، إذ توحي في بداية الفيديو بأنّها ستقدّم عرضاً أو خطاباً يحارب النظرة الدونية للمرأة، لكنّ هذا التقديم الموجز يمرّ بسرعة برقيّة في فضاء الفيديو القصير، مخلياً الساحة لبهرجات لفظيّة وبصرية ولخطاب مفكّك، لعلّ أخطر ما فيه هو التّماهي التّام مع خطاب السلطة الذكورية في الوقت الذي يفتح معركة بلا ضوابط مع الرّجل، بوصفه نوعاً لا يصنع ولا ينتج سوى الخطر والاعتداء.
فنياً وبصرياً بني الفيديو نفسه على خلطة تعيد تركيب السّائد في الفيديوكليبات المنتشرة، وبدا كتوظيفة من دون رابط يسمح بتكوين دلالات واضحة. بل كانت الرغبة في الاستعراض والبهرجة غالبةً ومسيطرةً في الأزياء والحركات وفي كامل المشهدية العامة، التي برز فيها أكثر من مرّة طابع الحشد والكثرة كنموذج يشي بارتباط وثيق بفكرة العسكرة ونموذجها.
تتحدّث ريمي عقل عن البقلاوة، باعتبارها صفة للمرأة، ككائن ينتمي إلى الكثرة، لكن في الجزء الأكبر من الفيديو يظهر الرّجل في كل مرّة كفرد يحمل الصّفة الجّماعية لنوعه بشكل دائم. أما حين يظهر بشكل جماعي، كما هو الحال في ختام الفيديو، فإنّه يحضر ليصنع مشهد السقوط المحتوم تحت وطأة ضربة المرأة النسوية المتحرّرة من سجن البقلاوة الذي وضعها فيه قسراً.
حضور المرأة في الفيديو يقدّم نماذج متطابقة شكلياً، وهذا المنطق هو خطاب السلطة نفسه. فالفيديو يحاول استعماله للتوكيد على وحدة قضية المرأة، لكنّه يقول العكس عملياً، لأنّه لا يمكن أن تنطلق عمليّة وعي عام خارج الخصوصيّة الفرديّة. التّماثل المتطابق الذي يصرّ عليه الفيديو يقول إنّه لا وجود للمرأة وقضيّتها خارج الخطاب العام للنسويّة، كما ينادي به.
ليس هذا الخطاب سوى خطاب إقصاء وإلغاء ينطوي على أقصى ما تطمح إليه البنى السّلطوية في كل العالم، والتي تقدّم هي بنفسها نماذج للحريات والثّورات، يكون التطابق التام أحد أهم مكوّناتها ومنتجاتها.
البقلاوة هي الصّفة التي يقول الفيديو إنّ الرّجال يطلقونها على النساء. بعد ذلك يستفيض في شرح مكوّناتها الماديّة حاصراً التعاطي الرجاليّ معها في التلطيش والتهميش والخطر، ومدّعياً أنّها تتفادى ذلك المخلوق في المطبخ والسرير والحمّام، وتتجنّب الحديث معه والقيام بمشاريع مشتركة مع ذلك الكائن لسبب وجيه، لا ينفك الفيديو يكرّره، وهو لأنّه “الخطر”.
الرّجل وفق خطاب الفيديو ليس سوى مجرم ومغتصب، وهذه الصفات ليست عارضة أو طارئة بل أصلية وثابتة.
العلاقة التي يؤكّد على واقعيّتها بين المرأة والرّجل ليست سوى صراع حتّى الموت بين منتج الخطر وصانعة الأمان.
يدفن فيديو البقلاوة أموراً كثيرة في منطقه المهرجانيّ والعدوانيّ. ولعلّ أهمّها النّضال النسوي الجديّ والرصين، والذي اجتهد في تقديم مقاربات عقلانيّة لقضيّة شائكة ومعقّدة لا يمكن التّعاطي معها بخفّة ثنائية المرأة – البقلاوة والرّجل – الخطر
لا صفات ممكنة إذن للرّجل خارج تصنيف القاتل والمغتصب. هو ليس أباً أو والداً أو أخاً، ولم نشاهده أو نسمع العشرات من القصص التي تروي كيف سعى الرجال، خلال الأزمات والحروب وخارجها، إلى حماية زوجاتهم، بناتهم وأمهاتهم بأجسادهم وكل إمكانياتهم.
لا وجود للحبّ إذن في شبكة العلاقات بين الرجال والنساء، فهو ليس سوى وسيلة ذكوريّة لشرعنة الاغتصاب والانتهاك. تالياً يدين هذا الفيديو كلّ امرأة تعيش الحبّ مع الرّجل وتؤمن به. بشكل آخر، يشنّ صنّاع هذا الفيديو حرباً شعواء ضدّ فكرة السعادة نفسها، التي يجمع علماء النفس على ربطها بأمرين وهما أن تحبّ وأن تعمل.
لكنّ المفارقة الأبرز أنّه وبعد عملية نزع الصفات الإنسانية عن الرّجل يخاطبه الفيديو بوصفه المرجع إذ تقول بطلته: “ما بدي منّك شي، ولا شي، بدي بس أعطيك تشوفني، تقشعني، تحسّ، تبادلني، أنا صانعة أمان: فماذا تفعل؟”.
نفهم من هذا الخطاب الختاميّ أنّ المرأة لن تكفّ عن تغذية الوحش ومنحه الرعاية والأمان من دون أي مقابل. كلّ ما تطلبه منه هو الاعتراف بها وأن تكون مرئيّة، وأن يحسّ ويبادلها، وهو الأمر الذي يؤكّد الفيديو في كامل خطابه السابق على لحظته الختامية بأنّه مستحيل، وأن الرّجل لا يملك في طبيعته البنية التي تسمح له بذلك.
إقرأ أيضاً: أحمد غصين يخرق “جدار صوت” حرب تموز لإيقاظ الموتى
الانتقال غير السلس من الرّجل – الخطر إلى الرّجل – المرجع، الذي يُعترف له بالسلطة، هو جوهر الخطاب المسطّح الذي يقدمه الفيديو، والّذي يعبّر، إذا ما رجعنا إلى خطابه الخاصّ، عن حالة متقدّمة من عقدة التّماهي بالمعتدي.
يدفن فيديو البقلاوة أموراً كثيرة في منطقه المهرجانيّ والعدوانيّ. ولعلّ أهمّها النّضال النسوي الجديّ والرصين، والذي اجتهد في تقديم مقاربات عقلانيّة لقضيّة شائكة ومعقّدة لا يمكن التّعاطي معها بخفّة ثنائية المرأة – البقلاوة والرّجل – الخطر.