سَلك التحقيق في جريمة المرفأ منعطفاً حاسماً وسط تنازع صلاحيات بين المحقّق العدلي فادي صوّان وبين مجلس النواب، ما قادَ النائبين والوزيرين السابقين، المُدّعى عليهما في الملفّ، علي حسن خليل وغازي زعيتر، إلى التقدّم بطلب نقل الدعوى إلى قاضٍ آخر بسبب “الارتياب المشروع”، وفق نصّ المادة 340 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
هو إجراء لا يكبّل المحقّق العدلي ولا يوقف التحقيقات إلا إذا وافقت محكمة التمييز على طلب النقل. وعندها يتمّ تعيين محقق عدلي جديد يخلف القاضي صوّان. لكنّ المعلومات تفيد أنّ خليل وزعيتر قد يتقدّمان أيضاً بطلب ردّ القاضي صوان، وفق المادة 120 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وفي حال حصل ذلك، تُرفع يدّ صوّان فور تبلّغه طلب الردّ إلى حين بتّ محكمة التمييز بالطلب سلباً أو ايجاباً.
أما هيئة مكتب مجلس النواب فوَصَفت أسلوب مخاطبة صوّان للمجلس بـ”السَهوة”. فيما أعلن نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي أنّ هيئة المكتب بعثت رسالة ثانية إلى صوّان عبر وزيرة العدل “أكثر تفصيلاً ودقّة واطّلاعاً على قضايا في غاية الأهمية”!!
بالتأكيد فإنّ المسار الذي انتهجه المحقّق العدلي “فتّح أبواباً” مغلقة عليه واضعاً نفسه في مواجهة مباشرة مع جبهة سياسية متراصّة ضدّه. نقطة القوّة فيها هي انقسام الجسم القضائي نفسه حيال ما صُنّف “تجاوزاً للدستور والقوانين من جانب المحقّق العدلي، خصوصاً في المواد 40 و70 و71”.
المعلومات تفيد أنّ خليل وزعيتر قد يتقدّمان أيضأ بطلب ردّ القاضي صوان، وفق المادة 120 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وفي حال حصل ذلك، تُرفع يدّ صوّان فور تبلّغه طلب الردّ إلى حين بتّ محكمة التمييز بالطلب سلباً أو ايجاباً
وتؤكد مصادر قضائية في هذا السياق أنّ “مسار الشعبوية لا يلغي خرق الدستور. صحيح أنّ خطوة الوزراء بالامتناع عن المثول أمام صوّان غيّر محصّنة شعبياً لكنها محصّنة دستورياً. فمساءلة هؤلاء الوزراء تتّصل بصلب مهامهم الوظيفية. ولذلك، وفق الدستور، صلاحية الملاحقة تعود إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء”.
ويوم غد الجمعة سيكون يوماً مفصلياً في تاريخ القضاء. إذ يتوقّع القاضي صوّان الجلوس أمام رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب لأخذ إفادته بعدما أُبلِغَت الأمانة العامة لمجلس الوزراء بموعد الاستماع إلى دياب كمُدّعى عليه في القضية. هذه الجلسة، وبقرار من دياب ومن يدعمه، لن تحصل. يحقّ لصوّان تكرار التبليغ وصولاً إلى تطبيق نصّ المادة 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية بإصدار مذكرة إحضار أو مذكرة توقيف غيابية بحقّه.
لكنّ مطّلعين يؤكّدون أنّ صوّان، واحتراماً لموقع رئاسة الحكومة، لن يستخدم صلاحياته في حال لم يتمكّن من استجواب دياب. والأخير يمكن أن يجد المحقّق العدلي “فتوى” له عبر تطبيق نصّ المادة 84 من القانون نفسه وفحواها: “إذا توافرت أدلّة خلال التحقيقات تفيد بمنع المحاكمة عنه يمكن غضّ النظر عن استجوابه والاستماع له. وإذا حصل العكس يكون دياب ملزماً بتقديم إفادته أمام القاضي صوان”.
أما بالنسبة للوزراء الثلاثة وبغضّ النظر عن الإشكاليات القانونية المرتبطة بوضعهم كمحامين وكوزراء سابقين وبالصفة النيابية بالنسبة لعلي حسن خليل وزعيتر، فإن النتيجة واحدة: رفضٌ من رأس هرم مجلس النواب ومن “لوبي” سياسي – طائفي – حزبي لاعتبار صوّان صاحب الصلاحية في استجوابهم، وصولاً حتّى إلى عدم سلوك خيار تقديم الدفوع الشكلية من قبل محامي هؤلاء تفيد بعدم الاختصاص.
هنا مثلاً يمكن فهم مغزى أن يكون المحقّق العدلي قد راسل الأمانة العامة لمجلس النواب عبر النائب العام التمييزي في شأن الاستماع إلى إفادة وزيريّ المال والاشغال السابقيّن فيأتي جواب خليل وزعيتر بأنّهما لم يتبلّغا التبليغ! وفي مطلق الأحوال، طلبّ ردّ القاضي صوان سيجمّد أيّ إجراء يمكن أن يتّخذه الأخير بحقّ الوزراء “المتمرّدين”!
وفي “جَردة” لما أنجزه المحقّق العدلي حتّى الآن تقول مصادر قضائية بارزة: “عملياً قفز القاضي صوّان فوق الإخفاق الأمني والإخفاق القضائي في التعامل مع خطر النيترات قبل الانفجار، واكتفى بتحميل مسؤوليات إدارية بادّعائه على 33 شخصاً، وحالياً يحاول تحميل مسؤوليات سياسية، باستثناء الادّعاء على مدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا”.
وتوضح المصادر أنّ “اللواء صليبا أوعز بإجراء تحقيق. ولم يؤدِ هذا الأمر إلى تلافي وقوع الانفجار، وبالتالي فإنّ عدم تحميله مسؤولية والجزم بأنّه لم يخطئ سيعني أنّ القضاء قد أخطأ. لذلك، كان توجّه المحقق العدلي بالادّعاء على صليبا وعدم تحميل القضاء، أقلّه حتّى الآن، المسؤولية”.
وتلفت المصادر إلى نقطة حسّاسة تتعلّق “بمسؤولية جميع الأجهزة الأمنية الموجودة وغير الموجودة في المرفأ. فإن لم تكن تعلم بوجود النيترات فهذا إخفاق على المستوى الاستعلامي، أمّا إذا علمت ولم تتحرّك فهذا إخفاق على المستوى العملاني. وعلى ما يبدو يخشى المحقّق العدلي الصدام مع الأجهزة الامنية، تحديداً مع قيادة الجيش السابقة. وربما قد يكون لهذا الأمر اعتباراته الطائفية أو الخاصة لدى المحقّق العدلي”!
مطّلعون يؤكّدون أنّ صوّان، واحتراماً لموقع رئاسة الحكومة، لن يستخدم صلاحياته في حال لم يتمكّن من استجواب دياب. والأخير يمكن أن يجد المحقّق العدلي “فتوى” له عبر تطبيق نصّ المادة 84 من القانون نفسه
وبالتزامن مع ارتفاع منسوب التجييش السياسي والطائفي والحزبي بوجه المحقّق العدلي حيال الدفعة الأولى من الادّعاءات التي طالت سياسيين، فإنّ أسئلة هامّة جداً، تشير إليها مصادر قضائية معنية، لم يجد لها القاضي صوان جواباً حتّى الآن:
– هل وصول الباخرة إلى المرفأ وغرقها كان حادثاً عرضياً أو مدبّراً؟
– من هي الأطراف المتواطئة إذا ثبت أنّ وصول الباخرة وغرقها كانا مقصودَيْن؟
– بعد إفراغ الباخرة هل حصل خطأ في التخزين، و من هي الجهة المسؤولة؟
– بعد التفريغ أيضاً، هل تلف البضاعة أو نقلها أو إعادة تصديرها كان يحتاج إلى قرارٍ متلازم مع إجراء إداري، أو إجراء أمني، أو إجراء قضائي، أو إجراء على مستوى الحكومة؟ والإجابة على هذا السؤال تحدّد المسؤوليات التقصيرية على المستويات كافّة ونِسبة كلّ طرف من المسؤولية.
إقرأ أيضاً: صوّان يوقع تشكيلة الحريري في الفخّ
مع العلم، وفق مصادر متخصصة، أنّ طلب تعويم الباخرة تمّ بطلب من وزارة الأشغال عبر هيئة القضايا وبقرار من قاضي العجلة، لذلك فإنّ تلفها أو نقلها كان يجب أن يتمّ بقرار قضائي مشابه بناءً لطلب الدولة، ومن يمثّل الدولة أمام القضاء هي هيئة القضايا التي وصلتها كل المعطيات المتعلّقة بالنيترات، وهي تقدّر مصلحة الدولة وتتصرّف. فلماذا سكوتها طوال هذه السنوات؟
– هل حصل أيّ خطأ أثناء عملية التلحيم، فوقع الانفجار؟ أو كان الأمر مدبّراً مع توزيع المسؤوليات على هذا المستوى أيضاً؟
– هل ما انفجر هو كلُّ كمية النيترات او جزءٌ منها؟ وما ارتباط ذلك، سواء بإدخال الباخرة أو بتفريغها والتقاعس عن التلفّ أو عن إعادة التصدير وصولاً إلى الانفجار.
– ويبقى السؤال الأكبر: هل سيكون القرار الاتّهامي الصادر عن صوّان على قدر القناعة التي تكوّنت لدى فريقٍ بارز، وأعلنها النائب نهاد المشنوق جهاراً في أكثر من مناسبة، بأنّ ثمّة تواطوءاً أميركياً – لبنانياً – إسرائيلياً لتضييع التحقيق بانفجار المرفأ؟
يقود كلّ هذا المشهد مرجعية سياسية بارزة إلى اختصاره بالقول: “خلال 15 عاماً وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري دُمّر البلد مرّتين: الأولى على قاعدة “لو كنتُ أعلم”. والثانية “كنتُ أعلم ولكنّني لم أتحرّك”. والتنصّل من المسؤولية هو القاسم المشترك”!