في الذكرى العشرين لتحرير الجنوب أكّد الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله أنّ حزب الله لا يريد أن يحكم لبنان. لم يشرح الرجل جملته هذه بل تركها مفتوحة على تأويلات شتّى. لكن أيّا كان قصده، فمجرّد نفيه إرادة حزبه حكم لبنان يعني أنّه قادرٌ أن يحكمه لكنّه لا يريد ذلك. فالمسألة هنا ليست، بالنسبة لنصرالله، إذا كان الحزب قادراً أو غير قادر على حكم لبنان، وإنّما إذا كان يريد ذلك أو لا يريد.
لكنّ السؤال المطروح هنا قبل البحث في قدرات حزب الله ورغباته، هو: كيف يمكن لحزب الله أن يحكم لبنان؟
فأن يضمر نصرالله أنّ حزبه قادرٌ على حكم لبنان فهذا يدفع المخيّلة إلى تفحّص السيناريوهات المحتملة لهذا الحكم. فطبيعة النظام اللبناني لا تتيح لحزب بعينه حكم البلد لمجرّد حيازته عدداً معيناً من المقاعد في البرلمان – من المستحيل أن يحظى حزب وحدَه بالأكثرية البرلمانية – أو لمجرّد انتخاب عضو فيه رئيساً للجمهورية. خلاف ذلك يعني أنّ حكم البلد سيتمّ من خارج الأصول الدستورية ومن طريق القوّة ومنطق الغلبة.
إقرأ أيضاً مقال الزميل حسن فحص: حزب الله والمسار المعقد نحو اللبننة
فهل هذا ما قصده نصرالله؟ أي أنّ حزبه قادرٌ على حكم لبنان بقوّة سلاحه لكنّه لا يريد ذلك، بل يريد “الشراكة في الحكومة اللبنانية”، كما قال في الخطاب نفسه؟
أيّا يكن من أمر فإنّ أي لبناني يمكنه تأويل كلام نصرالله أعلاه على أنّه تهديد بإمكان الحزب حكم لبنان بقوّة سلاحه.
هذا يحيلنا إلى الإشكالية الأساسيّة التي تحكم مجمل الوضع اللبناني، وهي أنّه لا يستقرّ حكم في لبنان في ظلّ وجود حزب الله بطبيعته الحالية كما أنّه لا يستقرّ حكم في لبنان من دون حزب الله كحزب يتمتع بتمثيل شعبي كبير ضمن طائفة معينة.
يواجه لبنان هذه الإشكالية منذ العام 2005، بعدما أدّى انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان من العام نفسه إلى خروجها إلى العلن كإشكالية جوهرية ضمن الوضع اللبناني، بعد أن كانت الإدارة السورية للحكم في لبنان قد طمستها منذ انتهاء الحرب الأهلية.
هذا يحيلنا إلى الإشكالية الأساسيّة التي تحكم مجمل الوضع اللبناني، وهي أنّه لا يستقرّ حكم في لبنان في ظلّ وجود حزب الله بطبيعته الحالية كما أنّه لا يستقرّ حكم في لبنان من دون حزب الله كحزب يتمتع بتمثيل شعبي كبير ضمن طائفة معينة.
غير أنّ المعطى الأساسي في هذه الإشكالية أنّ حزب الله يتصرّف كما لو أنّه غير معني بحلّها بل على العكس فإنّ سلوكه السياسي والأمني والاجتماعي يؤكد أنّه يريد تجذير هذه الإشكالية ومأسستها على حدود الدولة والمجتمع، لأنّ حلّها يعني بكل بساطة تحوّل حزب الله عن صيغته الحالية واستحالته حزباً كسائر الأحزاب.
والحال هذه فإنّ مقولة أنّ حزب الله لا يريد أن يحكم لبنان تعني، إضافة إلى ما ذكر أعلاه، أنّ الحزب يريد أن يبقي مسافة بينه وبين لبنان كدولة ومجتمع تاريخيين، إلا إذا استطاع تغييرهما على صورته، وهذا أمر مستحيل.
بالتالي فإنّ هذه الاستحالة تجعل حزب الله أكثر حرصاً على تأبيد هذه الإشكالية ايّا تكن أثمان تأبيدها على الدولة والمجتمع.
وليس قليل الدلالة في هذا السياق أنّ حزب الله لم يطرح يوماً، بالرغم من إمكانات جهازه السياسي والاقتصادي والأمني، مشروعاً متكاملاً للنظام السياسي الاقتصادي في لبنان. وهذا لا يعني قبول الحزب بالنظام الحالي بل يعكس عدم قدرته على تغييره بالوسائل السياسية، والأهم أنّه لا يريد – ولا يستطيع في وضعه الحالي – الانخراط في النظام إلى حدّ الذوبان فيه. أي أنّه يريد إبقاء مسافة بينه وبين لبنان كدولة ومجتمع تاريخيين – لأنّ انتفاء هذه المسافة يعني تحوّلاً جذرياً في طبيعة حزب الله كحزب تعبوي يحمل أيديولوجيا دينية – لكنّه يريد في الوقت نفسه أن يبسط نفوذه في لبنان بوصفه ساحة رئيسية في اللعبة الجيوسياسية في المنطقة.
والحال هذه لم يواجه لبنان في تاريخه إشكالية مماثلة. أي أن يهدف حزب الى السيطرة على الدولة والمجتمع من دون أن يحكمهما بالمعنى السياسي والديموقراطي للكلمة.
مقولة أنّ حزب الله لا يريد أن يحكم لبنان تعني، إضافة إلى ما ذكر أعلاه، أنّ الحزب يريد أن يبقي مسافة بينه وبين لبنان كدولة ومجتمع تاريخيين، إلا إذا استطاع تغييرهما على صورته، وهذا أمر مستحيل
فالحركة الوطنية التي شكّلت حالة اعتراضية على نظام الجمهورية الأولى قدّمت مشروعاً إصلاحياً للنظام أسمته “البرنامج المرحلي” قبل الحرب الأهلية. وهو دليل على نيتها تغيير قواعد اللعبة السياسية والدستورية عبر الانخراط إلى آخرها في الدولة والنظام، أي أنّها لم تكن تريد بأيّ شكل من الأشكال رسم مسافة بينها وبين الدولة والنظام.
وهذا يعدّ فرقاً جوهرياً بين الحركة الوطنية كحركة اعتراض على نظام الجمهورية الأولى وبين حزب الله كحركة اعتراض على نظام الجمهورية الثانية، وذلك بالرغم من سعيه الحثيث إلى بسط نفوذه إلى أبعد حدود في مفاصل الدولة منذ التسوية الرئاسية في العام 2006.
إقرأ أيضاً: حوار مع حسن فحص عن الحزب: تفصله عن اللبننة مسافة طويلة جداً
إنّها معضلة أساسية يواجهها حزب الله وتتمثّل بعدم قدرته على بناء جسر لعبور طبيعي وسلسل إلى الدولة والحكم، لأنّه في الأصل غير مستعدّ معنوياً وسياسياً على إلغاء الفصل العميق بينه وبين الدولة والمجتمع اللبنانيين كمعطيين تاريخيين تأسّسا على مدى عقود.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يسعى حزب الله إلى تبديد هذا التراكم التاريخي والتأسيس، في المقابل، لدولة ومجتمع جديدين لا يضطّر إلى إقامة مسافة فاصلة عنهما، أمّ أنّ صعوبة هذا التبديد، بل استحالته، ستضطّره في نهاية الأمر إلى لبننة نفسه في السياق التاريخي لهذه اللبننة لا خارجه… وإّلا فإنه لن يستطيع “حكم” لبنان، إلّا وقد استحال دولة فاشلة ومجتمعاً منهاراً على ما يحصل الآن!