حكومة أو لا حكومة؟ مقام رئاسة الحكومة أو لا مقام أصلاً؟ هل يبدأ البحث عن شركة جديدة للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان؟ هل ينتهي التحقيق في انفجار المرفأ من حيث بدأ؟ هل يجوع اللبنانيون غداً بعد نفاد الدولار من الخزائن؟ بل هل تكون انتخابات نيابية في موعدها أو لا تكون؟ هل الرئيس ميشال عون آخر رئيس للجمهورية الحالية؟
كلّ هذه الأسئلة لم تعد ذات أولوية راهناً، على شدة أهميتها السياسية والإدارية والدستورية.
الإشكالية الجوهرية التي تحتاج إلى جواب حقيقي هي أنّ لبنان متروك. والأنكى أنّ لبنان ليس فقط تحت سطوة العقوبات الأميركية، وليس متروكاً من أشقائه وأصدقائه في العالم. بل هو تخلّى عن نفسه، ودخل في حالة الغيبوبة الكيانية الذاتية المتسارعة في التعمّق، نحو القعر، مثل غوّاصة فقدت اتزانها، وهي تغرق في محيط واسع. كلّ من فيها يدرك تماماً مصيره، ويعلم تماماً سير الأحداث، لكنّه لا يفعل شيئاً، أو لا يحاول أن يفعل شيئاً.
هل بمقدور لبنان الصمود مثلاً إلى أن يستلم جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة في 20 كانون الثاني المقبل؟ أو إلى أن يشكّل فريق عمله خلال النصف الأول من العام المقبل أو أكثر من ذلك؟ أو هل يستطيع البقاء إلى أن تمرّ الانتخابات الرئاسية السورية في الربيع المقبل وبعدها الانتخابات الإيرانية؟ أسئلة مستغربة لكنها مطروحة.
الإشكالية الجوهرية التي تحتاج إلى جواب حقيقي هي أنّ لبنان متروك. والأنكى أنّ لبنان ليس فقط تحت سطوة العقوبات الأميركية، وليس متروكاً من أشقائه وأصدقائه في العالم. بل هو تخلّى عن نفسه
لبنان قيد الانتظار. أو على لائحة الانتظار في زحمة الاستحقاقات الإقليمية والدولية. ولماذا ينتظر؟ لا أحد يجيب. هل هو مجرّد ورقة؟ وهل لبنان مهم ليكون ورقة بيد أحد؟ هل هو بحجم مناسب يتيح لأحد ما أن يقحمه في لعبة المقايضة: استقرار سوريا من استقرار لبنان، وبالعكس؟ هل التلويح بتقسيم لبنان كأمر واقع، رافعة من رافعات ضمان وحدة سوريا تحت حكم الأسد؟ وبهذا، هل ارتبط مصير لبنان حكماً وشعباً بمصير سوريا حكماً وشعباً، وبمعالم التفاهم الإيراني الأميركي في العراق، وبمصير الاتفاق النووي في إيران، ويمصير النزاع العربي الإسرائيلي، الذي يتحوّل على نحوٍ متسارع إلى ماراتون التطبيع العربي مع إسرائيل من دون سقف؟ كلّ هذا غير مقنع. فلماذا الانتحار المجاني إذاً؟
هي حفلة جنون سياسي الآن، حيث الجميع يخاصم الجميع، والكلّ يتهم الكلّ بالفساد. (هل من المعقول الادّعاء على حسان دياب مثلاً، وتبرؤ التيار الوطني الحرّ من هذه الخطيئة؟). هل تحرّر القضاء من السياسيين؟ وعندما يتحرّر يضرب في النقطة الأضعف في النظام مدّعياً على المسؤول الأقلّ مسؤولية في جريمة المرفأ، وهو رئيس الحكومة لسبعة أشهر فقط بين 19 كانون الأول و10 آب 2020؟ لا أحد يفهم مُراد القاضي العدلي فادي صوان، ولن يفهم أحد. كلّ الطبقة السياسية، وكلّ المجموعات الثورية، تائهة وحائرة. لا تعلم من أين تبدأ، ولا تعلم كيف تتصرّف، أو أيّ خطة تعتمد؟
هذا الضياع الذي يعطّل العقل السياسي في لبنان، في كافة الاتجاهات، سببه أمر واحد. وهو أنّ الخيط الذي يربط المتناقضات المصلحية والخصوم السياسيين وشتات الآراء، غائب عن السمع. أو هو قرّر الانكفاء الذاتي، لأسباب داخلية أو خارجية، قد نعلم بعضها، ولا نعلم الكثير منها.
إنّ النظام اللبناني بتناقضاته الداخلية منذ الاستقلال، كان يحتاج دائماً إلى وسيط broker خارجي، كي يسهّل عقد الصفقات، أو يدفع إليها، أو يفرضها على الأفرقاء عند الضرورة، وإلا لجأ اللبنانيون إلى الاحتراب الأهلي، بدرجات متفاوتة من العنف.
هل تحرّر القضاء من السياسيين؟ وعندما يتحرّر يضرب في النقطة الأضعف في النظام مدّعياً على المسؤول الأقلّ مسؤولية في جريمة المرفأ، وهو رئيس الحكومة لسبعة أشهر فقط بين 19 كانون الأول و10 آب 2020؟ لا أحد يفهم مُراد القاضي العدلي فادي صوان، ولن يفهم أحد
كان هناك دور مصري في المرحلة الناصرية في إدارة الخلافات. وحتّى ياسر عرفات حاول أن يلعب هذا الدور في الحرب الأهلية، وفشل بطبيعة الحال فكان الثمن غالياً في النهاية. برز الدور السوري السعودي المشترك في مرحلة إنجاز اتفاق الطائف، ثم تفرّد الوسيط السوري إلى درجة أعلى، حين أصبح اللاعب الحصري. بعد خروج القوات السورية من لبنان في 25 نيسان 2005، ضاع السياسيون. لجأوا إلى تفاهمات وتحالفات مؤقتة لإدارة المرحلة الانتقالية بين الوصاية السورية إلى نظام جديد لم يولد. ظهر حلف الأقليات مع تفاهم مار مخايل عام 2006، وترسّخ أكثر مع الحرب السورية، فتوسع نطاق هذا الحلف. انتهت صلاحية هذا الحلف، بسبب ظاهري وبديهي، وهو أنّ الأقليات لا يمكنها أن تلغي الأكثرية مهما فعلت. علق النصر في الحلق، فأصبح صعباً هضمه. أصبحنا جميعاً معلّقين بين نصر عسكري في العراق وسوريا واليمن لا يمكن تظهيره سياسياً، وبين وقائع قديمة وعوامل مستجدّة وتحالفات غريبة لا يمكن تجاوزها بسهولة. فإن كان لبنان، مرآة المنطقة وما يمور فيها ويفور من اضطرابات، فمن الطبيعي أن يكون وجوده نفسه، في مهبّ العواصف.
إقرأ أيضاً: مؤامرة وقنابل جهنّم: تمسّكوا جيّداً.. فالارتطامُ آتٍ
لم يكن بمقدور الحزب الذي يدير فعلاً مناطق شاسعة خارج لبنان، أن يدير لبنان منفرداً، بوصفه القوة الأكثر تنظيماً وتجهيزاً، فتحالف مع التيار الوطني الحرّ. لكنه لم يعد بمقدوره إدارة الأمور حتى بهذا التحالف، مع توجيه العقوبات الأميركية على النائب جبران باسيل. البديل من هذه الصيغة هو المجهول حتّى الساعة. وفي هذا يكمن كلّ هذا الضياع حالياً، الذي يقارب الفوضى العارمة، بين الحلفاء أنفسهم، معسكر 8 آذار تحديداً، ومن التحق بهم من معسكر 14 آذار، رغبةً أو رهبةً. ولسان حال الجميع الآن: “ما كو أوامر” باللهجة العراقية!