لا يتوقف خصوم “حزب الله” عن التمنّي بأن يعود إلى داخل الحدود وأن ينخرط في الحياة السياسية في إطار طبيعي، فيتخلّى عن أدواره الإقليمية وصراعاته وتورّطه في بحور الدماء من سوريا إلى العراق، وليس انتهاءً باليمن.
كثيراً ما نسمع أصوات سياسيين يحثّون الحزب على هذه العودة وعلى مباشرةِ حوار وطني يوصل إلى استراتيجية دفاعية وطنية، تحمي لبنان من العدوان الإسرائيلي، وتحصّن سيادته من الأشقاء الأعداء الذين سيطروا على مقدّراته ردحاً من الزمن واستباحوا سيادته وامتصّوا خيراته.
إقرأ أيضاً مقال الزميل حسن فحص: حزب الله والمسار المعقد نحو اللبننة
وفي كلّ محطة سياسية فاصلة تبرز مسألة “لبننة حزب الله”، ويستدلّ البعض بتصريحات أو إشارات أوتسريبات ترفض نزع الانتماء اللبناني عنه، وتشيد بـ”تواضع” قيادته التي تعمد إلى مثل هذا الضخّ الإعلامي، كلّما علت موجات التذمّر من سياساته. لكن بغضّ النظر عمّا يقوله الحزب، فإنّ النقاش حول هذه “اللبننة”، يجب أن يمرّ في مسارٍ منطقي يستحضر شروط قيام الدولة بأركانها وسيادتها، وهي المعيار الصالح لمثل هذه المقاربة.
كمدخل للنقاش، فإنّ الخطوة الأولى التي ينبغي على “حزب الله” القيام بها لتشريع انتمائه إلى الدولة، هي التقدّم بطلب العلم والخبر إلى وزارة الداخلية. فهو الحزب الوحيد الذي ينخرط في مؤسسات الدولة وهو لا يحظى بالشرعية القانونية، وهذا يعكس حقيقة نظرته للدولة وتصرّفه على أنّه فوق المؤسسات الدستورية.
في كلّ محطة سياسية فاصلة تبرز مسألة “لبننة حزب الله”، ويستدلّ البعض بتصريحات أو إشارات أوتسريبات ترفض نزع الانتماء اللبناني عنه، وتشيد بـ”تواضع” قيادته التي تعمد إلى مثل هذا الضخّ الإعلامي
الإشكالية الكبرى الثقيلة في علاقة “حزب الله” بالكيان اللبناني، هي أنّه يربِطُ وجوده ومصيره بوجود إيران فبقاؤه مرهون ببقاء نظام الولي الفقيه. فكيف تستقيم لبنانّيته من سلاحُه ومالُه مِن إيران؟ وكيف يمكن المواءمة بين الانتماء الامبراطوري الفارسي، وبين الانتماء إلى الدولة اللبنانية، الذي لا يمكن أن يستقيم من دون العودة النهائية والصريحة من الغزوات خارج الحدود؟
الإشكالية الأخطر هي أنّ “حزب الله” يعتقد أنّ تنامي قوته العسكرية وتضخّم قدراته القتالية يمنحه الحقّ في فرض التغيير على الكيان اللبناني والإطاحة بالدستور والتوازنات المؤسِّسة لهذا الكيان، ليستحوذ على مفاصل الدولة دستورياً، بعد أن استحوذ عليها بالقوّة القاهرة من خلال التعطيل حتّى إخضاع الجميع لإرادة السلاح، كما حصل في حالة فرض انتخاب الرئيس ميشال عون.
لا يُخفى أنّ مشروع الانقلاب الذي يديره “حزب الله” يشمل الجلوس مع رئيس الجمهورية على كرسيّ الرئاسة، من خلال نائب رئيسٍ شيعيّ بصلاحيات ستُقضَمُ أيضاً من صلاحيات رئاسة الحكومة، وبالسيطرة على موقع قيادة الجيش، إضافة إلى طرح المداورة في موقع مفتي الجمهورية اللبنانية، مع ما يلي ذلك من سقوط الهيكل الدستوري والسياسي.
هذا التفكير يحمل عدواناً واضحاً على بقية اللبنانيين الذين ختموا حرباً أهلية باتفاق الطائف وبالدستور المعمول به. وما يُؤسف له استخفاف “حزب الله” بمعارضيه الذين يتمسّكون، حتّى الآن، بسلمية حركتهم. لكن على الحزب أن يقرأ جيداً ارتفاعَ نسبة المطالبين بالانفصال عنه تحت مسميات مختلفة، لكنّها تؤشِّر بشكل واضح إلى نفاد صبر اللبنانيين من هذا الانقلاب المتمادي الهادف إلى تغيير هوية وطنهم والإطاحة بمميّزاته في التنوّع والشراكة الإسلامية المسيحية، مقابل حلف الأقليات وما أنتجه من كوارث على مستوى الإقليم.
من عيوب “حزب الله” الموصوفة فشلُه في تأمين التنمية للمناطق التي يمثّلها، وتحديداً البقاع، حيث يسود الحرمان. وكان الإنجاز شبه الوحيد هو تشريع زراعة الحشيشة. ولولا المشاريع التي قامت وتقوم بها مؤسسة “جهاد البناء” الإيرانية، لَخلا البقاع من مشاريع ذات جدوى، وربما هذا مقصود للإبقاء على ربط الناس بإيران وبالرواتب الآتية من وراء الحدود، وليس بدولتهم واقتصادها ودورتها الاجتماعية.
لا يتأتّى هذا الفشل من عدم قدرة الحزب على تأمين التصويت في مجلسي النواب والوزراء لصالح المشاريع التنموية في البقاع، بل لدى الحزب تحالفات كافية. فضلاً عن أنّ مشاريع التنمية لا تلقى في العادة اعتراضاً حتّى من الخصوم، بل هذا دليل على غياب القدرة على البناء والتنمية.
الإشكالية الكبرى الثقيلة في علاقة “حزب الله” بالكيان اللبناني، هي أنّه يربِطُ وجوده ومصيره بوجود إيران فبقاؤه مرهون ببقاء نظام الولي الفقيه. فكيف تستقيم لبنانّيته من سلاحُه ومالُه مِن إيران؟
أيضاً فإنّ “حزب الله” في الداخل قوّةُ تعطيلٍ هائلة، وهذا ما يتقنه عملياً، لذلك ابتدع نظرية “الثلث المعطّل”، ولا يمكن أن يكون عامل بناء من يعتبر التعطيل استراتيجية للحصول على أهدافه.
والحزب في الداخل أيضاً، عاملُ إرهاب وتخويف، ونموذج 7 أيّار ثم القمصان السود، وقبله اغتيال الشهيد رفيق الحريري، يجعل أيّ تفكير باللبننة مع سلوك كهذا موضع تساؤل واستنكار. ومن مشتقّات هذا الإرهاب ذلك القمع الوحشي لثورة 17 تشرين.
لم يستطع “حزب الله” الصمود في معركة مكافحة الفساد وسقطت شعارات أمينه العام حسن نصرالله أمام سدود جبران باسيل ومعامله في سلعاتا وغيرها، وهكذا فشل في دحض ما يراه اللبنانيون من تحالف السلاح والفساد وما أنتجه من خراب، ليتحوّل التصريح الشهير للنائب حسن فضل الله عن امتلاكه ملفات تزجّ رؤوساً كبيرة في السجون نموذجاً عن المناورات التي يقوم بها الحزب للدعاية.
عملياً، وجد “حزب الله” نفسه متحالفاً مع الفاسدين، ومسايراً لخصومه إذا غطسوا في الفساد لأنّه طوّع هذه النوعية من الخصوم الذين باتوا ضرورة له لتمرير سياساته، وفق لعبة “الديمقراطية الشكلية” والتوازنات التي يجري استخدامها في سبيل المحاصصة، كما أنّه من السهل ابتزاز هؤلاء الخصوم بما اقترفت أيديهم من فساد.
من خلال استعراض شروط اللبننة وفق معايير الدولة، نكتشف سريعاً أنّ المسافة لا تزال طويلة جداً بينه وبين العودة إلى لبنان الكيان الوطن والرسالة، لكنّ البعض لا يزال يقول إنّ رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فهل تبدأ؟