لا يمكن لقطاع الكهرباء أن يكون أسوأ حظاً من أن يجتمع عليه نفاد دولارات مصرف لبنان وانتهاء عقد التوريد مع “سوناطراك” الجزائرية في شهر واحد.
ليس سوء حظ، بل سوء تدبير. فالحكومة المستقيلة تبلغت قبل ستة أشهر عدم رغبة “سوناطراك” بتجديد عقدها الذي ينتهي في 31 كانون الثاني 2020. ومع ذلك ضاع الوقت من دون إطلاق مناقصة لعقد بديل، في ظل تبادل الاتهامات بالإهمال والتعطيل بين وزارة الطاقة وإدارة المناقصات.
والشقّ الآخر المتعلّق بتضاؤل موارد العملة الصعبة المتاحة لاعتمادات الاستيراد أيضاً لم يفاجئ أحداً. فوتيرة استنزاف احتياطات مصرف لبنان كانت تشير إلى استنفادها بنهاية العام.
في ظل التزام بغداد بكوتا محددة للإنتاج، باتت بحاجة إلى كل دولار من النفط الذي تبيعه، كما أن السعر العالمي المنخفض لم يعد يسمح بإعطاء خصومات
أيّاً يكن، فإنّ المسارات التي يبحث فيها المسؤولون عن حلٍّ في الأسبوعين الفاصلين عن موعد الظلام، تبدو أقرب إلى المتاهات.
الحلّ الأكثر تردداً هو الاستيراد من العراق، وهو حلٌ يُطرح ليس فقط لأزمة “الفيول أويل” الذي يُستخدم كوقود لتشغيل محطات الكهرباء الثابتة والعائمة، بل لأزمة الوقود عموماً، بما فيها البنزين والمازوت. وهناك من يؤمِّل الناس بموافقة العراق على تقديم خصومات سعرية مجزية (ذكرت إحدى الصحف أنّها قد تصل إلى النصف!)، وبتسهيلات في الدفع لستة أشهر أو سنة.
ووجدت هذه الآمال ما يغذّيها حين وصلت صهاريج المازوت التي قدّمها العراق هبةً للبنان بعد انفجار مرفأ بيروت، وقيل إنّ الأمر نوقش مع الوفد الوزاري العراقي الذي زار بيروت في تلك الفترة. وترافق ذلك مع حمّى الكلام عن “التوجّه شرقاً”، كحلّ سحري لكلّ مشكلات البلد!
غير أنّ الواقع في مكان آخر. فالمعلومات المتوفرة من بغداد تشير إلى صعوبة تلبية الطلبات اللبنانية، بصرف النظر عن وجهة الرغبة السياسية لحكومة مصطفى الكاظمي.
فبغداد تلقّت ضربة مزدوجة من خفض إنتاجها النفطي التزاماً بقرارات “أوبك بلس” (تحالف يضم دول منظمة “أوبك” وعدد من المنتجين الكبار للنفط، بقيادة روسيا). فالتحالف قرّر خفض إنتاجه بنحو عشرة ملايين برميل يومياً اعتباراً من بداية أيار الماضي، نتيجة الشلل الذي أصاب الاقتصاد العالمي في ظل وباء كورونا. ثم قلّص التخفيضات إلى 7.7 مليون برميل في بداية آب، ويعتزم تقليصها مجدداً إلى 7.2 مليون برميل يومياً في بداية العام المقبل.
المعلومات المتوفرة من بغداد تشير إلى صعوبة تلبية الطلبات اللبنانية، بصرف النظر عن وجهة الرغبة السياسية لحكومة مصطفى الكاظمي
كانت حصّة العراق من قرار الخفض الأكبر مليون برميل يومياً من أصل 4.6 مليون برميل كان ينتجها قبل الجائحة، لكنّه واجه صعوبة كبيرة في الالتزام بهذا الخفض بسبب طبيعة عقوده مع شركات النفط العالمية التي تنتج من حقوله، ما اضطره إلى الالتزام لاحقا بآلية للتعويض عن ضعف الالتزام في الأشهر الثلاثة الأولى، فخفض إنتاجه بنحو 1.2 مليون برميل يوميا اعتباراً من آب.
تلك التخفيضات أدّت إلى أزمة مالية كبرى في الميزانية العراقية، انعكست صعوبة في توفير الموارد لسداد الرواتب والمعاشات التقاعدية ومصاريف الإدارة العامة، والتي تصل إلى 4.2 مليار دولار شهرياً. وتردّد أن المملكة العربية السعودية ساعدت بغداد بقرض بنحو نصف مليار دولار لتغطية تلك الحاجات العاجلة.
وفي مواجهة تلك الأزمة، اضطرّ العراق إلى طرح مناقصة غير مسبوقة لبيع النفط على مدى خمس سنوات، بمعدل 48 مليون برميل سنوياً، مع الدفع المسبق لنحو 2.5 مليار دولار عن السنة الأولى. وقدمت شركة “شينخوا أويل” الصينية الحكومية أفضل العروض للفوز بالمناقصة.
ويواجه العراق مشكلة إضافية نتيجة التزامه بقرار “أوبك بلس”، تتمثل بانخفاض إنتاج الغاز المصاحب لإنتاج النفط، والذي يستخدم في تشغيل معامل الكهرباء، ما يضطرًه للتحوّل إلى استخدام الفيول أويل بدلاً من الغاز في التوربينات البخارية.
أزمة مالية كبرى في الميزانية العراقية، انعكست صعوبة في توفير الموارد لسداد الرواتب والمعاشات التقاعدية ومصاريف الإدارة العامة، والتي تصل إلى 4.2 مليار دولار شهرياً
تلك الأزمات المركّبة انعكست على التزام العراق بعقد لتوريد نحو 11 ألف برميل من النفط الخام إلى الأردن بسعر مخفّض كان قد بدأ تنفيذه في أيلول 2019. ففي ظل التزام بغداد بكوتا محدّدة للإنتاج، باتت بحاجة إلى كلّ دولار من النفط الذي تبيعه. كما أنّ السعر العالمي المنخفض لم يعد يسمح بإعطاء خصم دونه. وقد توقف العراق بالفعل عن التوريد إلى الأردن لبضعة أسابيع قبل أن يعود لاستئنافه بكميات أقلّ وبخصم لا يتجاوز أربعة دولارات عن السعر العالمي للبرميل، بينما كان الخصم في بداية العقد يصل إلى 16 دولاراً، حسبما تردّد في وسائل الإعلام.
وليس سرّاً أنّ كثيرين في لبنان قاسوا على التسهيلات العراقية للأردن ليأملوا كرماً مماثلاً مع لبنان. غير أنّ تلك الآمال تغفل عناصر عدّة:
أولاً: أنّ العقد العراقي مع الأردن صغير أصلاً، ولا يغطّي أكثر من 7% من الاستهلاك الأردني.
ثانياً: أنّ الأردن يستورد النفط بشكله الخام من العراق، ويتولّى تكريره في مصفاة محلية، بينما يحتاج لبنان إلى شراء منتجات مكررة أو اللجوء إلى طرف ثالث للتكرير.
ثالثاً: أنّ المعلومات الواردة من العراق تشير إلى أنّ الخصم الذي يحصل عليه الأردن لا يزيد كثيراً على التكاليف الإضافية التي تتحملها الصادرات إلى الدول الأخرى في عمليات النقل والتحميل على ظهر الناقلات. وتلك ميزة قد لا تتوفر للبنان، لأنّ تكاليف النقل إليه والترانزيت عبر سوريا لا تبقي شيئا من هذا الفارق.
اللجوء إلى السوق الفورية (spot cargo) لتوفير الفيول أويل، مشكلته تكمن في (عدم) توفر الدولارات، خصوصا في ظل الصعوبات التي يواجهها فتح الاعتمادات
رابعاً: أنّ العراق والأردن يشتركان بحدود مباشرة، وبينهما مصالح استراتيجية مستقبلية، إذ يخطط البلدان لمدّ خطّ أنابيب بين البصرة والعقبة لتوفير منفذ لتصدير النفط العراقي إلى أوروبا. بينما التصدير إلى لبنان بالصهاريج دونه صعوبات لوجستية في المرور عبر سوريا.
كلّ ذلك يجعل التعويل على العراق لسدّ حاجات لبنان من الوقود شبيهاً بالآمال الزائفة التي تسوّق في الأيام الأخيرة قبل كل موعد صعب.
إقرأ أيضاً: ما لا تجرؤ عليه السلطة: وقف “السطو” المنظّم باسم الدعم
البديل الأكثر عملانية هو اللجوء إلى السوق الفورية (spot cargo)لتوفير الفيول أويل، لكنّ مشكلته تكمن في (عدم) توفر الدولارات، خصوصاً في ظلّ الصعوبات التي يواجهها فتح الاعتمادات. وما هذا إلا مثال على عواقب الشلل الذي أصاب القطاع المصرفي اللبناني منذ أن قررت الدولة اللبنانية التوقف عن سداد ديونها، وما استتبع ذلك من عزلة عن النظام المصرفي العالمي.