لعلّ أبرز ما ميّز مسرحية مجلس النواب الأخيرة، حين تبنّى بإجماع كتله الأساسية، قراراً يقضي بإخضاع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، بالتوازي، للتدقيق الجنائي بلا أي عائق أو تذرّع بسريّة مصرفية أو خلافها… هو أنّ تلك المسرحية لم تجدّ لها مصفّقين إلّا الجالسين على خشبة مسرحها! أمّا الجمهور فلم تعد تنطلي عليه تلك الروايات!
انتهت الجلسة، فسارعت رئاسة الجمهورية إلى إحالة نصّ القرار إلى رئاسة مجلس الوزراء، طالبةً “المبادرة إلى اتخاذ الإجراءات القانونية والعملية في موضوع التدقيق المحاسبيّ المركّز على حسابات مصرف لبنان والجهات ذات الصلة وفقاً لقرار مجلس الوزراء الرقم 3 تاريخ 26/3/2020”.
بدوره أرسل وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني كتاباً إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال قال فيه: “حيث أنّ حاكم مصرف لبنان طلب تزويده بكتب تُرفع بموجبها السرية المصرفية عن حسابات الدولة والهيئات والمؤسسات العامة، وبما أنّ وزارة المالية هي المسؤولة بشكل مباشر عن حسابات الدولة، فإنّها أرسلت كتاباً إلى حاكم مصرف لبنان تخضع بموجبه كلّ حساباتها للتدقيق المحاسبيّ الجنائيّ عملاً بقرار مجلس النواب المذكور أعلاه، واستكمالاً لذلك، للتفضّل بالطلب إلى سائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العامة (المؤسسات العامة والبلديات والإدارات ذات الموازنات الملحقة …) الذين لديهم حسابات في مصرف لبنان، بإرسال كتاب بإخضاع حساباتها للتدقيق المحاسبي الجنائي المطلوب”.
أبرز ما ميّز مسرحية مجلس النواب الأخيرة، حين تبنّى بإجماع كتله الأساسية، قراراً يقضي بإخضاع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، بالتوازي، للتدقيق الجنائي بلا أي عائق أو تذرّع بسريّة مصرفية أو خلافها
بالتوازي، كان وزني قد راسل من جديد شركة “ألفاريز ومارسال” يسألها ما إذا كانت ترغب في العودة لاستكمال مهمّتها، مرفقاً كتابه بنصّ القرار الذي سطّره مجلس النواب.
حتّى الآن، تبدو عناصر المسرحية مشوّقة، تترك مجالاً للشك بأنّ هناك من يحاول إحداث خرقٍ قي جدار جسابات مصرف لبنان المحصّنة بمصالح القوى السياسية التي مهما تخاصمت وتصارعت، فهي تتفاهم عند خطّ التقاء حساباتها المالية، التي تخفي أسرَارها دهاليزُ مصرف لبنان.
فعلياً، تدرك المنظومة الحاكمة جيداً، أنّ العلّة ليست في حسابات مصرف لبنان الخاصة به وليست في حسابات الإدارة العامة ومؤسساتها وصناديقها ولو أنّها تخفي هدراً بمئات ملايين الدولارات. بل إنّ الفجوة الفعلية التي طيّرت مليارات المودعين، تكمن في حسابات المصارف الخاصة المحميّة بقانون السرية المصرفية. ولو أرادت القوى السياسية كشف المستور ورفع الغطاء عن هذه الفجوة فعلياً، لكانت تفاهمت على صيغة قانونية تمكّن شركة التدقيق من ولوج “عالم المال والسلطة” الذي تمثّله حسابات المصارف الخاصة حيث تخفي الهندسات المالية ألغازاً وتقاطعاتٍ غير مفهومة بالمعنى السياسي التقليدي.
حتّى الآن، تبدو عناصر المسرحية مشوّقة، تترك مجالاً للشك بأنّ هناك من يحاول إحداث خرقٍ قي جدار جسابات مصرف لبنان المحصّنة بمصالح القوى السياسية التي مهما تخاصمت وتصارعت، فهي تتفاهم عند خطّ التقاء حساباتها المالية، التي تخفي أسرَارها دهاليزُ مصرف لبنان
ولهذا، لم يجد مجلس النواب نفسه معنياً بمناقشة اقتراح تعديل قانون السريّة المصرفيّة ولا حتّى البحث في كيفية مواجهة معضلة هذا الخطّ الأحمر الذي يضعه مصرف لبنان على حسابات المصارف الخاصة، فرمى الكرة في ملعب التدقيق في إدارات الدولة ومؤسساتها وصناديقها ضمن لعبة الصراع الحاصلة بين مكوّناته، والتي راحت تتخذ مع الوقت طابعاً قضائياً.
ماذا يعني التدقيق في إدارات الدولة؟
يعني نبش آلاف الوثائق والمجلّدات والتدقيق بملايين الحسابات قبل التوصّل لأي خلاصة أو جردة تبيّن مواقع الهدر ومزاريبه. ولهذا كان جواب “ألفاريز ومارسال” وفق معلومات “أساس”، أنّ العقد الذي وقّعته مع الدولة اللبنانية لا يتضمّن هذه المهمة، ما يعني أنّ شروعها في التدقيق في حسابات الإدارات الرسمية والمؤسسات العامة والمصالح والصناديق، يستدعي صياغة عقد جديد يتضمّن هذه المواصفات، لأنّه لا يمكن للشركة تنفيذ هذه المهمة وفق العقد الموقع.
إقرأ أيضاً: التدقيق الجنائي… نسفته رغبة الجميع
وتشير المعلومات إلى أنّ صياغة عقد جديد يعني العودة إلى مجلس الوزراء، ويعني فتح باب التفاوض مع شركات جديدة قبل الاتفاق على اسم الشركة التي سيصار إلى التعاقد معها. وهذا ما لا تستطيع القيام به حكومة تصريف الأعمال، حتّى لو جرى الضغط عليها. ورئيسها يرفض توسيع حدود تصريف الأعمال ويصرّ على مندرجات الدستور في هذا الخصوص. فعن أيّ تدقيق يتحدثّون؟!