تعاني القوى التقليدية والأحزاب السياسية اللبنانية من أزمة تراجع قدرتها على الإقناع والتمثيل الشعبي، الذي وصل خلال الآونة الأخيرة إلى مداه الأقصى، وتعاني من انكشاف تورّطها في سياسات إفقار الشعب ونهب ثروات ومقدرات لبنان الاقتصادية والمالية على مبدأ المحاصصة. تلك التي تبيّن أنّها الضابط الأهم لسقف الخلافات بينها من دون اي اعتبار للأثمان التي تدفعها الكتل اليشرية المؤيّدة لها، بعدما تحولت إلى مجرد وقود لتأمين هذه المصالح والحصص.
لذا فإنّ أزمة حزب الله تبدو أكثر تعقيداً من هذه القوى والأحزاب، خصوصاً أنّه لم يعد قادرا على تسويغ المسار السياسي الذي انتهجه في التعامل مع الحياة السياسية اللبنانية، الذي كان محكوما في العقود الثلاثة الماضية منذ دخوله في الحياة البرلمانية بسقف “حماية ظهر المقاومة”. فالأزمة الأخيرة وانكشاف الواقع اللبناني أمام الكارثة الاقتصادية التي لحقت به جراء تراكم الآثار السلبية للادارات السيئة، باتت تفرض على الجميع أسلوباً من التعاطي والتعامل يختلف عما هو سائد، ويفضح عجز هذه القوى عن ابتداع مخارج لما يعاني منه لبنان ويواجهه من مخاطر انهياره التي تضعه أمام مصير مجهول.
أزمة حزب الله تبدو أكثر تعقيداً من هذه القوى والأحزاب، خصوصاً أنّه لم يعد قادرا على تسويغ المسار السياسي الذي انتهجه في التعامل مع الحياة السياسية اللبنانية، الذي كان محكوما في العقود الثلاثة الماضية منذ دخوله في الحياة البرلمانية بسقف “حماية ظهر المقاومة”
ويمكن اعتبار التوجه الذي أعلنه الأمين العام لحزب الله في إحدى الخطابات قبل الانتخابات البرلمانية عام 2018 والذي تحدث فيه عن نية حزبه الدخول في معركة محاربة الفساد، مؤشراً جدياً على بداية حصول متغيرات في تعامل الحزب مع الساحة اللبنانية. كما يظهر أنّ المرحلة المقبلة ستشهد إعادة ترتيب أولوياته لصالح الانتقال من شعار حماية ظهر المقاومة إلى حماية رؤيته اللبنانية التي يفترض أن تترجم الاستثمارات التي قام بها في مواجهة إسرائيل وعلى مستوى الإقليم.
وعلى الرغم من التراجع عن السقف المرتفع الذي وضعه لهذه المعركة أمام الحقائق والوقائع اللبنانية في هذا المجال، إلا أنّ هذا التوجه لدى قيادة الحزب جاء بناءً على حقائق استشعر حجم التحديات التي تكمن فيها. خصوصاً أنّ معركته في تثبيت دوره الإقليمي والحرب السورية وامتداداته في الإقليم من العراق وصولاً إلى اليمن قد وصلت إلى الثمار التي يرجوها. وبات مرتاحاً في تكريس قدرة المحور الذي يعمل الحزب على حفظ مواقعه والتصدّي لكل التغييرات التي كان يعتقد أنّها تستهدف منظومته. وهذا الإنجاز يعني تراجع انشغالات الحزب خارج الحدود اللبنانية، وبالتالي فإن العودة إلى الداخل، خصوصاً بعد إعلان نصرالله الانتصار في سوريا، جاء في لحظة مفصلية بالنسبة إلى الوضع الداخلي اللبناني. لعل أبرز معالمها هو الأزمة الاقتصادية التي انفجرت مع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، حين كشفت حجم الكارثة التي كان يعيش فيها لبنان، وأيضا حجم التكاذب الاقتصادي والسياسي الذي وضع البلد داخل دائرة الانفجار.
قد لا تكون أزمة الحزب في نيته الانتقال من حالة المواجهة إلى البحث عن دور على الساحة اللبنانية وتكريسه. بل قد تكون متأتية من إدراكه لحجم التحديات التي يفرضها هذا الانتقال لدى الأطراف الأخرى الشريكة على الساحة اللبنانية، والتي تعيش حالة من النكران ورفض نتائج هذا المسار في نوايا اللبننة لدى الحزب
وإذا ما استطاع الحزب استيعاب الانعكاسات الاقتصادية والمعيشية السلبية على الحاضنة الشعبية له، خصوصاً الدائرة الأضيق، إلا أنّه لم يستطع احتواءها في الدائرة الأوسع للمكوّن الشيعي الذي يشكل البيئة التي خرج منها. بيئة تُعتبر عمقه الشعبي وخزّانه الاستراتيجي. فضلا عن العبء الذي كان عليه تحمّله دفاعاً عن المشروع الذي تمسك به في تركيب سلطة تجمع أطرافاً معارضة له من قوى وأحزاب أجمعت على تحميله مسؤولية ما آلت اليه الأمور والأوضاع. هذا إلى جانب تحميلة مسؤولية العزوف الدولي والعربي، وتحديداً تخلّي العرب عن دعم لبنان بسبب دور حزب الله السياسي في الداخل والعسكري في الإقليم وما فيه من تهديد لمصالح الكثير من الاطراف. هذه الأوضاع وضعته أمام تحديات وعقّدت مساراً بدأ يتشكّل أو يتبلور في الانتقال لترجمة تراكم القوة و وتثمير الدور بخطوات عملية أو التأسيس لها على الأقلّ.
قد لا تكون أزمة الحزب في نيته الانتقال من حالة المواجهة إلى البحث عن دور على الساحة اللبنانية وتكريسه. بل قد تكون متأتية من إدراكه لحجم التحديات التي يفرضها هذا الانتقال لدى الأطراف الأخرى الشريكة على الساحة اللبنانية، والتي تعيش حالة من النكران ورفض نتائج هذا المسار في نوايا اللبننة لدى الحزب. وهي باتت ضرورة لا يمكن إنكارها في المستقبل، بما فيها من التزامات تفرض عليه تقديم تنازلات يحاول قدر المستطاع تأخير استحقاقها أو التقليل من حجمها.
حالة النكران هذه، بحسب تقديرات دوائر الفكر والتخطيط داخل الحزب، تعود إلى خوف هذه القوى من تحديات سياسية ستواجهها نتيجة تحوّل الحزب إلى شريك أساسي وفاعل وكامل الدور داخل التركيبة اللبنانية التي ستكون متكئة على آليات ترجمة القوة الداخلية والإقليمية وتحويلها إلى حصص داخل السلطة والنظام، ليس فقط للحزب، بل للمكوّن الشيعي عامة.
وتعتقد هذه الدوائر الحزبية أنّ الدور والشراكة الشيعية في النظام السياسي اللبناني يجب أن تنتقل من الهامشية إلى الشراكة الكاملة، وأنّ النهضة التي حقّقها هذا المكون وبدأت منذ سبعينيات القرن الماضي وتراكماتها، إضافة إلى ضرورة ترجمة فائض القوة التي وصلت إلى أوجها خلال السنوات الأخيرة، يجب أن تُترجم إلى آليات دستورية تضع الشيعة داخل الصيغة اللبنانية بشكل فاعل، وتساعد على نقل ما يمارسونه من دور سياسي بالاعتماد على قوّتهم والأوضاع القائمة، إلى شراكة تستند على موقع الشيعة في تركيبة النظام.
وتدرك هذه الدوائر أنّ حجر العثرة الذي قد يعرقل عملية الانتقال إلى اللبننة التي ستكون إحدى تحديات المرحلة المقبلة الرئيسة أمام الحزب، تكمن في الشريك اللبناني الآخر، الماروني والسني، الرافض للتخلّي عن جزء من امتيازاته لصالح شريك آخر جديد طامح. خصوصاً أنّ هذا الشريك الجديد يدرك أنّ ما حققه من إنجازات وقوّة وحضور يبقى خارج دائرة التأثير في حال فقد ما يتمتع به من دور داخلي وإقليمي يسعى لترجمته بما يتناسب وحجمه الحقيقي، ضمن نظام تشاركي بناءً على ما حقّقه من دور وموقع سياسي وعسكري داخلي وإقليمي.
في هذا السياق، تدرك قيادة الحزب أنّ الأزمة التي تواجهها على هذا المسار، وفي علاقاتها الداخلية والاقليمية والدولية، تأتي من غياب البعد اللبناني الواضح في الرؤية السياسية أو المشروع السياسي لدوره وموقعه داخل التركيبة اللبنانية، وأنّ ما حققه من إنجازات في مواجهة المطامع الإسرائيلية لا يزال غير قادر على تصريفها في الحسابات الداخلية أو حتى في إقناع الطرف الآخر بأهمية هذا الإنجاز. هذا الآخر الذي يرى في هذه الإنجازات خطراً يصادر بعض سلطاتهم لصالح مشروع الحزب.
من هنا يأتي الدور الذي كان يقوم به الحزب في الموقف من عملية التفاوض حول ترسيم الحدود مع الجانب الإسرائيلي، في البحر والبرّ لاحقاً. قبل توقّفه.
إقرأ أيضاً: مصادر إيرانية: اغتيالات تطال المقاومة وخصومها
كان بإمكان هذا النجاح في إنجاز هذا المسار أن يحمل رسالة إيجابية إلى الداخل والخارج والمجتمع الدولي حول إمكانية التوصل إلى تفاهمات هادئة حول مستقبل لبنان، لا تعود معها مسألة التوصل إلى تفاهمات عدم اعتداء مع اسرائيل عائقاً أمام التقدم نحو إعادة بناء النظام اللبناني على أسس جديدة من خلال إعادة إنتاج الصيغة اللبنانية وتحويل الشريك الشيعي من الموقع الهامشي “من وجهة نظره” إلى موقع الشريك الحقيقي.
ماذا عن الأطراف الأخرى. للحديث صلة. أساس ميديا.