بارد حقاً هذا الكانون الثقافي، لا سينما، ولا حفلات، ولا لقاءات فكرية، ولا كتاب، ولا معرض له. لا نكشف جديداً حين نكتب أنّه للسنة الثانية على التوالي، يحتجب معرض الكتاب الدولي في بيروت عن روّاده. إرجاءات عديدة لدورته الـ63، ثم إلغاء، إلى جمود غير منظور الأجل.
لا خطوات ستشقّ طريقها في “بيال” نحو أجنحة الكتب، ولا ندوات شائقة ستعجّ بالمشاركين، ولا تواقيع كتب، لأنّه لا كتب. وكم بات سهلًا وسريعًا – بدون أن يتعارض هذا مع وجه الحقيقة – ربط كلّ نزف، وكلّ مصيبة في بيروت بكورونا وانهيار الليرة. إلا أنّ إلغاء معرض الكتب ما هو سوى الجزء المرئيّ من جبل الجليد، الذي تكدّس منذ سنوات في لبنان والعالم. كلمة السرّ الوحيدة هي “التكيّف”.
المعرض: مقاومة وانهيارات
“يضع عشرة كتب أمامنا، يشير لأحدها قائلًا: إنه الكتاب الوحيد الذي أستطيع طباعته”، “يعرض أمامي خمسة قواميس، تكلفة كلّ منها بحدود 80 ألف دولار، لكّن أمواله احتجزها البنك”. الكلام للدكتور عدنان حمود، مدير “النادي الثقافي العربي” الذي يتولّى تنظيم المعرض الدولي للكتاب في بيروت. وهو ينقل عيّنات على لسان “قيّمين على أكبر دور نشر في لبنان”، ولنقسْ عليها.
يوضح الدكتور حمود: “لم يعد خافياً أنّ دور النشر على طريق الإفلاس. قبل إلغاء المعرض، استمزجت آراءها وسألت عن إمكانياتها. ونحن نعلم أنّ البيال لا يزال قيد الترميم بسبب انفجار المرفأ. لكن، وإن حاولنا تغيير المكان، أكّدت دور النشر عجزها عن دفع مئة دولار لاستئجار جناح. البعض استغنى عن موظفيه، والبعض لا يستطيع تسديد فاتورة المياه ولا الكهرباء”.
لا خطوات ستشقّ طريقها في “بيال” نحو أجنحة الكتب، ولا ندوات شائقة ستعجّ بالمشاركين، ولا تواقيع كتب، لأنّه لا كتب
بالأرقام، يفسّر العجز: “طباعة الكتاب تقتضي دفع التكاليف نقدًا. لأن المطبعة تطلب 60 إلى 70 بالمئة من ثمن الورق نقدًا، وهذا ما يعادل 10 ملايين ليرة لبنانية عن كلّ كتاب. ناهيك عن كلفة التسويق. وفي حال تأمّنت التكاليف، يصطدم بيعه بكساد السوق. سعر كتاب الـ10 دولارات مثلا أصبح 90 ألف ليرة لبنانية”.
تأجّل المعرض أولاً لغاية آذار الماضي إثر اندلاع انتفاضة 17 تشرين، ثمّ أجلّه ثانياً تفشّي جائحة كورونا. وعلى الرغم من المخاطر، قرّر النادي إقامته، لأن الأهم ألّا يُلغى المعرض: “كنت داخل البيال أرسم خريطة جديدة. مساحة المعرض 10 آلاف متر مربع، خصّصنا منها فقط ألفي متر مربع لدور النشر، فقلّصنا المساحة إلى الربع. وجعلنا 7 أمتار للممرّات مراعاة للتباعد الاجتماعي. كان هذا قبل أيام من انفجار بيروت”.
يشير الدكتور عدنان حمّود إلى أنّه “لا سياسة، ولا خطّة مقرّرة لدى الهيئة الإدارية. لا نستطيع الاجتماع لتقرير إقامة المعرض أو معرض افتراضي أو نشاط لدعم الكتاب”، على الرغم من أنّ الجمعية دفعت مبلغ 200 ألف دولار من أصل 400 ألف، لاستئجار البيال منذ العام الماضي. لكنّ المبلغ بقي معلّقا كما المعرض”.
معرض الكتاب في بيروت لم توقفه منذ تأسيسه عام 1956 حرب، ولا عدوان من إسرائيل، ولا اغتيالات عام 2005، باستثناء اعتصامات وسط المدينة عام 2008، وتشنجات حالت دون تنظيمه: “الوضع محزن”، يقول الدكتور حمّود، ويضيف: “أتولّى منذ 28 سنة إدارة المعرض، من وزارة السياحة إلى الـ expoإلى البيال. لم نشهد أيّ عوامل شبيهة بالتي تنقلب اليوم ضدنا. وإن أقيم المعرض، لا يملك الزبائن قدرة شرائية، لأن أكثرهم ينتمي إلى الطبقتين الوسطى والفقيرة”. ويلخّص الصورة بـ: “لا مال للقارىء ليشتري، ولا مال لصاحب الدار ليطبع، ولا مال للكاتب لتمويل كتابه”.
وفي سياق متّصل، ينوّه أنّ “دور النّشر اللّبنانية الّتي شاركت في معرض الشارقة الدولي للكتاب، شجّعتها تسهيلات عديدة من إمارة الشارقة. أعفيت هذه الدور، وعددها 94، من رسوم الاشتراك. وأقدمت الإمارة على شراء كتب بـ 20 مليون درهم من دور النشر اللبنانية لدعمها وتشجيعها”، وسط إجراءات مشدّدة ومضبوطة تماماً، من بينها “تسجيل اسم الزائر قبل أيام، وتحديد عدد الزائرين اليومي”.
كتب مسموعة ورقمية
بإزاء اختناق الكتاب الورقي، توجّه عديد من دور النّشر اللبنانية إلى الخطّة “ب”، سعيًا لإنقاذ ما تستطيعه.
تقول ناشرة ومديرة “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر”، الدكتورة عزّة طويل: “نستطيع الكلام عن الكتب الإلكترونية ebooks والكتب المسموعة audio books كبديلين عن الكتاب الورقي. يختصران جزءًا يسيرًا من تكلفة الورق والحبر. وتقدّم نماذج اشتراك بمبالغ شهرية زهيدة لقاء الوصول لعدد غير متناهٍ من الكتب، ونحن نسعى للحضور في هذه المنصات التي تقدّم قراءة الكتاب بنمط مختلف عن النمط التقليدي”.
لا سياسة، ولا خطّة مقرّرة لدى الهيئة الإدارية. لا نستطيع الاجتماع لتقرير إقامة المعرض أو معرض افتراضي أو نشاط لدعم الكتاب
وتضيف: “اعتمادنا أيضاً على الخارج. لكن يصعب علينا تقبّل ألّا نكون موجودين في بلادنا. لذلك، نقدّم حسومات قدر إمكانياتنا، في داخل لبنان وخارجه، لأنّه أيضاً متأثر بكورونا”. وتشير إشارة إلى أنّ “الكتاب تحوّل منذ سنوات الى أحد جوانب الترف، منذ قبل انتشار كورونا، بسبب تفاقم أزماتنا الاقتصادية لبنانياً وعربياً. مستوى قلق المواطنين ارتفع، وأصبحوا غير قادرين على قراءة الكتب لأنّ ذهنهم منشغل بأمور أخرى”.
وحول العوامل الخارجية المساعدة، فهناك “مبادرة الشارقة بدعم دور النشر التي تأثّرت بانفجار بيروت. ونأمل أن تلحق بها مبادرات حكومية عربية تهتمّ بالوضع الثقافي اللبناني. لأنّ انهيار الوضع الثقافي في ظلّ انهيار الوضع الاقتصادي، يأخذنا إلى فجوة سوداء. ويجب ألّا يصبّ تركيز المواطنين على تأمين حاجاتهم الأساسية. عبر منصتكم أدعو إلى أكبر عدد من المبادرات الحكومية وغير الحكومية لدعم الكتاب ووصوله للناس بأقل كلفة ممكنة”.
وتقترح الناشرة طويل “إطلاق مبادرات استعارة الكتب. وترك كتب في أماكن عامة ليأخذها الناس. وتنشيط الجمعيات المحلية، ونوادي القراءة، لترميم الشرخ بين القارىء والكتاب”.
بدائل افتراضية
من بين هذه النوادي، تستمرّ “الجمعية اللبنانية للقرّاء” كمبادرة ناشطة لتشجيع المطالعة وتفعيل النقاش الفكري. انطلقت الجمعية منذ العام 2017، من خلال مجموعة قرّاء شباب جمعهم الشغف بالكتاب. ولم تستسلم الجمعية أمام العوائق، في حرصها للتأقلم الإيجابي وتجديد الأسلوب، طالما أنّ القارىء هو الهدف ومخاطبته هو الثابت الأهم.
إقرأ أيضاً: اسكندر نجار يهدي “تاج الشيطان” إلى ضحايا كورونا
مسؤول التواصل والعلاقات العامة في “الجمعية اللبنانية للقرّاء”، كريم قليلات، لا ينكر أنّ “إلغاء المعرض ألغى الفرصة التي خوّلتنا ابتكار نشاطات مع القرّاء. هو من المساحات القليلة التي هيأت لقاءنا مع الأعمدة الثلاثة للكتاب، الناشر، والكاتب، والقارىء”، مضيفاً أنّ “ارتفاع ثمن الكتاب هو بالدرجة الأولى من تداعيات الغلاء المعيشي العام. الكتاب سلعة ارتفع ثمنها بسبب التضخّم الاقتصادي، ومن التداعيات إغلاق مؤسسات اقتصادية ومن ضمنها الـGrid Café في مكتبة أنطوان وسط بيروت، حيث جرت العادة أن نجتمع شهريًّا لمناقشة الكتب وعقد لقاءات مع مؤلفين. فانقطعت اجتماعاتنا منذ آذار بسبب كورونا”.
يؤمن قليلات بأنّ “المشكلة يمكن تحويلها إلى فرصة، لأنّ الغاية الأسمى هي القراءة بصرف النظر عن الوسيلة”، فأزمة القارىء سيف ذو حدّين: “بسبب غياب الرقابة على الملكية الفكرية، يستطيع القارىء تحميل الكتب العربية مجّاناً عبر الإنترنت، وهذا ربما لحسن حظه، ولسوء حظّ الناشر والكاتب. لكنّ الكاتب يستطيع على الأقل توسيع قاعدة قرّائه ومتابعيه”.
ويرى قليلات أنّ مآل الكتاب ليس بهذه المأساوية، فـ”البيئة الحاضنة بحدّ ذاتها تموضعت بشكل آخر، ويترتّب علينا مواكبتها لأن العالم يتطوّر. هي تحوّلت من بيئة حاضنة للكتاب إلى بيئة حاضنة للمحتوى الرقمي. ولبنان أملت عليه الظروف أن يسارع في دخول الثورة الرقمية”.
هكذا ننتقل من أزمة “معرض الكتاب” إلى “أزمة الكتاب”، غير المسبوقة، في بيروت، التي كانت يوماً ما عاصمة الكتاب، وباتت اليوم عاصمة بلا كتاب.